وضعت التطورات في منطقة إدلب بشمال سوريا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مأزق حرج، ولعله أسوأ مأزق يمر به منذ أن اختطف السلطة منذ عشر سنوات أو أكثر، ذلك لأن المنطقة تشهد الآن فرار ما يزيد عن مليون لاجئ سوري، هاربين من هجمات قوات النظام السوري تحت الغطاء الجوي الروسي، باتجاه الشمال نحو الحدود التركية.
يواجه أردوغان الآن أوضاعا شبيهة بأوضاع ما قبل واترلو، فهو يطلب من الناتو بإلحاح غطاء جويا وصواريخ باتريوت لحماية جنوده من الضربات الجوية الروسية، لقد استنفد أردوغان، بعد أن طرد الناتو والغرب واشترى بطاريات الصواريخ الروسية، كافة أساليب الخداع التي ظل يمارسها على كلا الجانبين.
في عام 2015، عندما أسقطت قواته مقاتلة روسية من طراز «أس يو 24» أثناء تحليقها في المجال الجوي التركي لمهاجمة المعارضة التي تقاتل قوات الأسد، حينها توسل أردوغان لحلف الناتو لتزويده بصواريخ باتريوت، بيد أن الناتو، وكذلك الولايات المتحدة، لا يرغبان في تعزيز موقف أردوغان، أو مواجهة روسيا في نزاع يتجاوز حدود اختصاص الناتو، ولذلك لم يحصل أردوغان على الصواريخ، وليس من المرجح أن يحصل عليها الآن إلا إذا قدم تنازلات هائلة، وأياً كانت هذه التنازلات القصيرة المدى مثل إعادة الصواريخ من طراز «أس 400» التي استلمها من موسكو وإيقاف خط أنابيب الغاز الروسي، فإن الهدف النهائي هو رحيله عن السلطة، ما يعني أنه يواجه إنهاء فترة حكمه على كافة الجبهات.
أما الشيء الوحيد الذي يصعب التنبؤ بأفعاله هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فهو قد يساعد أردوغان، وقد تسربت بالفعل أنباء غير مؤكدة من مصادر تركية تشير إلى أن بطاريات باتريوت قد هبطت بالفعل في قاعدة إنجيرليك الجوية التابعة لحلف الناتو، وإذا صح ذلك، فقد تكون لفتة أولية لا أكثر من جانب الأمريكيين.
وليس لدينا معلومات عن الشروط الدبلوماسية المطلوبة لاستخدامها، والصعوبات التي يتطلب أن يتجاوزها أردوغان ليكون قادراً على إدارتها، كما أننا لا نعرف ما إذا كان ترامب أم البنتاغون أم الناتو هو الذي اتخذ القرار.
ربما يشعر ترامب بأن الظروف الآن لا تسمح بإظهار الضعف في مواجهة الروس، خاصة وأنه يعيش الآن الأشهر التي تسبق الانتخابات الأمريكية، وما يتطلبه ذلك من إجراءات أمنية مشددة، ولكنه في وقت سابق، أعطى إشارات باعتزامه تقديم الدعم المضاد لموسكو، غير أنه احتفظ بالمفتاح الأخير المطلوب لنشر هذه الصواريخ في المنطقة.
رغبة أردوغان الجامحة في الحصول على الدفاعات الجوية الروسية الصنع، وهي رغبة نابعة على الأرجح من عدم ثقته في جيشه، الذي شل أردوغان قدرته وأشغله بالأوضاع في سوريا، فيما تشكل القوات الجوية معضلة بالنسبة له، فضباطها حصلوا على التعليم والتدريب من الغرب، ويميلون إلى اعتناق القيم الديمقراطية الغربية.
خلال محاولة الانقلاب المزعوم في عام 2016، نجح أردوغان في حشد أنصاره ضد الدبابات والجنود، ولكنه لم يستطع احتواء الخطورة في سلاحه الجوي، ونظراً لاقتناعه بأن الغرب لن يقف إلى جانبه في خطواته الاستبدادية، فقد شعر أنه في حاجة إلى صواريخ روسية تدافع عنه ضد الطائرات التي قد يقودها الطيارون المتمردون في جيشه.
وجود نظام الصواريخ الروسية «أس 400» في الجيش التركي يعني حتماً وجود المدربين والمراقبين الروس، ومع وجود مجموعة ضباط مناهضين للناتو، داخل القوات الجوية التركية، سيتعلم الروس كيفية إسقاط الطائرات الحربية التركية، وبالتالي طائرات الناتو، لهذا أوقفت واشنطن التعاون العسكري مع أنقرة.
خلال قرون التراجع والانحدار في عهد الإمبراطورية العثمانية احتفظ الباب العالي بنفوذه العالمي من خلال تحريض القوى العظمى -القيصر الروسي وفرنسا وبريطانيا وغيرهم- بعضهم ضد البعض.
في أوهامه العثمانية الجديدة، يعتقد أردوغان أنه يستطيع تبني تكتيكات مماثلة عن طريق خلط الأوراق بين التحالفات، ولكن ذلك قد لا يكون في صالحه، فالغرب الذي يحب أردوغان إزعاجه في حاجة إلى التمسك بالجناح الشرقي لحلف الناتو، على الأقل لحماية أوروبا من حالة الفوضى التي تسود الشرق الأوسط، فالأوروبيون يهتمون إلى حد ما بما يحدث لتركيا، في حين أن الروس لا يبالون بذلك، فهم يفضلون تركيا الموالية لموسكو، ولكنهم في القدر نفسه راغبون في تركيا غير مستقرة، وربما يكون ذلك أفضل بالنسبة لهم، لأنه يعني عدم تهديد سوريا، وعدم وجود تهديدات من قوات الناتو، ولذلك فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا ينهي أي صراع مشتعل إذا كان في إمكانه كسب المزيد من النفوذ من وراء ذلك، ولذا فإن الخيار الروسي، كما اكتشف الرئيس التركي أخيراً، لم يكن أبداً ملاذاً آمناً بالنسبة لتركيا.
لقد انتبه الأتراك أخيراً إلى النزعة الاستبدادية لزعيمهم. فقد رأوا ما يكفي من الاضطرابات والصراعات، ولاحظوا أن صوت الإعلام المؤيد للنظام يخطئ أكثر من أي وقت مضى، وحلف الناتو الآن في وضع يسمح له بتقديم عرض نهائي لأردوغان: «تنازل عن السلطة بهدوء وإلا تركناك للدب الروسي».
هذا السيناريو قد يتغير في حالة واحدة، وهي الحالة التي ترغب فيها الولايات المتحدة في توريط روسيا وسوريا وإيران في صراعات مستمرة تحيك خيوطها أنقرة، هذا السيناريو ممكن التحقق إلى حد ما، وبموجبه يمكن لأنقرة الحصول على صواريخ باتريوت، بالإضافة إلى حصولها على قطعة كبيرة من الأراضي السورية يمكن أن تخصص لإسقاط الأسد، بيد أن العديد من العقبات قد تحول دون حدوث هذا السيناريو أبرزها «هل يمكن الوثوق بأردوغان بحيث لا يغير موقفه بعد حصوله على المساعدة؟.. وما هي حسابات دونالد ترامب؟، هل هو على استعداد لإزعاج بوتين بدعم أردوغان؟.. هل يهتم بأي اعتبارات جيو - إستراتيجية؟.. هل سيستمع إلى المزيد من المستشارين؟، لا مفر من الإقرار بأن أي قرار يتخذه في هذا الشأن سيكون له تأثير على موازين القوى في المنطقة لسنوات طويلة، ناهيك عن مصير الملايين الذين يواجهون الكوارث.
** **
مليك كيلان - موقع فوربس