هدى مستور
تصدّر كتاب «الهشاشة النفسية» بوصفه أحد أكثر الأطروحات الفكرية «لمركز دلائل الوقفية» إقبالاً وانتشارًا.
لا يعود ذلك إلى جِدة الموضوع على المكتبة العربية فحسب، بل إلى براعة الكاتب، وهو د. إسماعيل عرفة في تقسيمه لفصول، كل فصل منه طرح فيه موضوعًا متفردًا، وفي الوقت ذاته يشترك الناس (ولاسيما فئة الشباب) في محاولة فهمه، وإن بدت الأفكار في كل فصل مستقلة إلا أنها هي الأخرى تشترك فيما بينها في كونها من معززات الهشاشة النفسية المعاصرة كما يراها الكاتب.
الكاتب عد الكتاب مجرد «محاولة اجتهادية»، وصرح بحاجة أفكاره المطروحة في الكتاب إلى الاهتمام المكثف. وإن لم يغرق الكاتب القارئ في التفاصيل إلا أنه يشكر في ترجمته ونقله عددًا من المواقف التي نجح من خلالها في إبقاء انتباه القارئ مشدوهًا لعدد من المواقف والشواهد الحاصلة في مجتمعاتنا العربية والمجتمعات الغربية معًا. وفي ظني قد تألق الكاتب في إيقاد حماسة القارئ الإيمانية مع إنعاش فطرته بإعادته في كل فصل إلى مرجعيته الشرعية، وذلك بعرض الموقف الشرعي من تلك الأفكار الوافدة..
صرح الكاتب بأن الظاهرة لا تهم الطبقة الفقيرة الكادحة، التي يتعرض أفرادها لتحديات ضخمة، تجعلهم أكثر صلابة، وإنما تخص الطبقة الوسطى وما فوقها؛ فهي أكثر عرضة للهشاشة في عالمنا الحديث.
عام 2017م عده تاريخًا فاصلاً - بحسب رأي الكاتب - لانسحاب ظاهرة الهشاشة إلى صفوف الشباب العربي نظرًا لمجموعة من المتغيرات في المنطقة، أضف لذلك الانتشار الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي. ومن أعراض ظهورها تراجع الاهتمام بالقضايا الكبرى، وتمحور كل فرد حول نفسه.
ويقرر د. عرفة أن الكتاب يسعى إلى إنشاء نقطة توازن بين الإفراط والتفريط، ولا يقصد منه التقليل من المعاناة الحقيقية لقطاع عريض من الشباب في عالمنا العربي. كما يرفض المتاجرة بآلام الناس من خلال سوق التنمية البشرية، أو الاستهانة بالمعاناة من خلال الخطاب الديني، وإنما يوجّه الكتاب إلى الشريحة العريضة من المراهقين والمدللين والموهومين والمخدوعين!
من فصول الكتاب:
الفصل الأول: جيل رقائق الثلج:
سبب تسميته تلك يعود إلى وصفين: الأول سهولة تفتته، وشعوره بالتفرد والاستقلالية كما في الفصل الأول: هياكل رقائق الثلج. مؤكدًا في هذا الفصل أن الهشاشة مكتسبة، وليست طبيعية، وأن الإنسان يتمتع بخاصية المرونة النفسية الفائقة.
الفصل الثاني: هوس الطب النفسي:
وتعرّض فيه للتدرج والتوسع في مفهوم الصدمة في الطب النفسي DSM. فمن تعريف الصدمة بأي ضرر مادي للجسم كصدمات الدماغ الرضية، ليتوسع مع صدور النسخة الثالثة ليشمل اضطرابات ما بعد الصدمة، وهي التجربة العنيفة التي يختبرها المريض محددًا بظرف محدد كالحرب والاغتصاب والتعذيب. ولكن حدث انقلاب في تصورنا للمفهوم بعد عام 2000م؛ ليشمل أي تجربة يمر بها الإنسان، وتسببت له بآثار سلبية مادية أو نفسية دون تحديد معيار موضوعي يمكن القياس عليه؛ ليندرج تحته كل حالة يمكن تجاوزها بالزمن والبوح ودعم الأصدقاء، كالطلاق والموت وغيرهما. ويؤكد الكاتب أن المخ البشري باعتباره المتحكم في وظائف الجسم والأفكار والمشاعر والسلوكيات يعمل بنظام الاتزان النفسي بداخله. وكل إنسان بناء على ذلك قادر على تجاوز أزماته الشخصية من خلال التكيّف النفسي بممارسة بعض السلوكيات إلى حين تجاوز الأزمة، مع الحفاظ على الاتزان والاستقرار الداخلي.
في حين أننا نعيش في زمن الموضة السائدة فيه، هي أن كل الصدمات بمختلف مستوياتها تعد اضطرابًا نفسيًّا؛ وتحتاج إلى تدخّل علاجي، فإن الأدوية لا يسلم بتناولها لكونها تتدخل بشكل سلبي مع نظام الاتزان الفطري. ويرى أن الوصول إلى الحالة المثالية من السعادة النفسية ما هو إلا حالة من مطاردة الأشباح؛ فعدد من المصطلحات، كالسواء النفسي والصحة النفسية والاتزان النفسي، لا يقف خلفها ميزان دقيق؛ فهي مفاهيم سائلة، لا حدود تفصل فيها بين السواء النفسي والاضطراب النفسي؛ ولعل ذلك أحد أسباب العودة المستمرة باللائمة على النفس إذا لم تنجح في الوصول إلى هذه الحالة المثالية.
الفصل الثالث: الفراغ العاطفي أم الفراغ الوجودي؟
يصف الطبيب النفسي عماد رشاد الفراغ العاطفي بأنه فجوة تظهر داخل النفس، يمثلها احتياج لوجود أحدهم بالجوار، يغذيها عدم تمكن الأهل من التفهم والمشاركة.. ولكن يرى الكاتب أن ذلك قد يدعم حيلة نفسية، يلجأ إليها المراهق لتبرير مغامراته العاطفية المحرمة. ويؤكد أن المرء المكلف بعد بلوغه مسؤول عن إعادة تربية نفسه حسب التعريفات التي يراها صحيحة.
ويرى أن من أسباب الفراغ العاطفي ضعف تقدير المرء لذاته؛ وهو ما يجعله محتاجًا للنظر لنفسه من خلال الآخرين؛ لذا على المرء أن يتعرف على نفسه بشكل أعمق، ويحقق إنجازات مستقلة عن عيون الآخرين حتى تعود له ثقته بنفسه، ويحد من احتياجه العارم لشخص آخر في حياته.
وأمام أسئلة وجودية كثيرة، يطرحها الشباب، في حين أنهم لا يجدون جوابًا لها؛ وهو ما ضعف قدرتهم على تحمل أعباء الحياة، فإن العالم الرأسمالي يقدم الترفيه والتشتيت؛ فلا داعي لهذه التساؤلات؛ إذ الأهم هو أن تعيش اللحظة الراهنة هنا، والآن، وحسب. وهذا ما دعمته سوق الأفلام وصانعو السينما الأمريكية، وجاءت وسائل الترفيه لتلهي الإنسان المعاصر، وتخفف عنه وطأة هذا السؤال الوجودي العميق: مَن أنا؟ ولماذا أعيش؟
الفصل الرابع: السوشيال ميديا أصل كل الشرور:
للسوشيال ميديا فوائد جمة بالفعل، ولكن في الوقت ذاته عززت الهشاشة من خلال الآتي:
1- النرجسية.
2- تقديس التغيير.
3- فقدان التركيز.
4- الخلل في معايير النجاح.
5- أفكار من ورق.
الفصل الخامس: لا تحكم على الآخرين:
يستدرك الكاتب بإعلان رفضه الأحكام المتسرعة والخاطئة، والتعاميم غير الملمة بالتفاصيل، ورفض الأحكام المبنية على الظن، والحكم بالتأويل أو الحكم على النوايا، والتنقيب عن السرائر، ولكن دون رفض فكرة (الحكم) في حد ذاتها؛ إذ يعتبرها تجريد الإنسان من مكون أساسي من مكوناته، ويعد ذلك من غوايات الشيطان الذي يحب فعل المنكر دون إنكار. ويرى أن الحكم هو الذي يميز بين الحق والباطل والصواب والخطأ. وينقل الكاتب عبارة للكاتب الأمريكي جاسون كروز، فيها «لا يتم الحكم عليك عندما يتم إخبارك أنك مخطئ»، أو بعبارة أخرى «أنا لا أحكم عليك عندما أقوم بإخبارك بالحقيقة».
ونقل عن الشيخ علاء عبدالحميد أن رؤية أنفسنا بعيون الآخرين تساعدنا على تطوير ذواتنا. كما يرى نقلاً عن أستاذة علم النفس بجامعة كاليفورنيا مروة عزب أن أدمغتنا الواعية واللاواعية مبرمجة بطريقة طبيعية؛ لتصدر أحكامًا على كل شيء!
وينبه تيري كوبر أستاذ علم النفس بجامعة أوكلاند إلى أن هناك فرقًا بين أن تصدر أحكامًا وكونك حكميًّا، وأن هاتين العمليتين الذهنيتين مختلفتان بالكلية؛ فمن المناسب تمامًا أن نقيّم الأفعال والسلوكيات التي تجلب الضرر، وألا نعيش في عالم بلا أحكام، يعني أن نعيش في عالم بدون مبادئ ولا قيم أخلاقية.
الفصل السادس: (مشاعرك الداخلية: أسوأ حكم في حياتك):
يرغب الإنسان في المشاعر لكونها أداة قوية لتحقيق ذاته؛ لذا فقد أصبحت مركز اهتمامه. ويستطرد لكروا: «لغة الحياة اليومية تظهر تفضيلاً للمشاعر القوية على حساب المشاعر الهادئة. ففي أيامنا الحالية نميل إلى المبالغة، وتظهر في عبارات متكررة على الدوام: شحنات عاطفية، هذه قصة مجنونة، سيذهلك هذا الخبر.. وهذه العبارات تسلبنا القدرة على التأمل وعلى اعتناق المشاعر طويلة الأمد؛ لكوننا نبحث دائمًا عن الإثارة والاهتزاز».
الفصل السابع: مخدرات الشغف:
يمتلئ عالمنا اليوم بالخطابات التي تدعو لاتباع الشغف، تعززها الموسيقى المحفزة، وحماسة المتحدث، ولهجة التفاؤل لديه، فضلاً عن بريق عينيه..
وتكمن المشكلة في أن نفسية الشخص تعانق السماء حين يستمع لمثل هذه الخطابات، وتشتغل جوارحه للسعي بعد أن تعاطى جرعة رسمت له عالمًا سعيدًا، ولكن لا يلبث أن ينهار حينما يقرر النزول على الأرض؛ فليست هناك موسيقى محفزة، ولا متحدث لبق يقف على منصة ضخمة!
ويتساءل الكاتب: ما قيمة الشغف إذا لم تستطع الإنفاق على زوجتك وعيالك؟
ويؤكد دان لوك أن ملاحقة الشغف أمرٌ جائز، ويزيد من فرص النجاح، وتقديرك لذاتك، ولكن لا يمكن أن تبدأ به حياتك؛ إذ إن تحقيق الشغف ليس هدفًا أوليًّا، بل هو آخر خطوات السلم!
ويؤكد الإعلامي الأمريكي مايك رو «نصيحة اتبع شغفك نصيحة كارثية»! ويمكن استبدالها بـ»ابحث عن الفرص، وطور مهاراتك، وخُضْ تجارب جديدة، ونوِّع مصادر دخلك إلى جانب التعلم الدائم بلا توقف»..
الفصل الثامن: مفتاح النجاة: أنا مريض نفسي إذن أنا أفعل ما أريد:
لاحظ الباحث المصري عمرو كامل توجه هوليوود بأكملها إلى هذا المنحى، أي التعاطف مع الأشرار، كفيلم ديدبول، والفرقة الانتحارية، وأنا الحقير.. وغيرها من الأفلام التي تروج وتعزز ثقافة عدم الحكم على الآخرين من خلال أفعالهم، وإنما من خلال حالاتهم النفسية، والتجربة الحياتية الخاصة بهم. إننا كلنا في النهاية فاسدون، وربما نرتكب الأفعال الإجرامية ذاتها لو كنا مكان هؤلاء!
الخاتمة: يؤكد الكاتب أن محتوى كتابه جاء كمحاولة اجتهادية للتعريف بهذه الظاهرة، وجذب الانتباه إليها، ويرى أن الأجيال الأخرى غير معفية من الإصابة ببعض الآثار الجانبية لمشكلة الهشاشة النفسية.
قد نختلف مع الكاتب، وقد نتفق معه، وقد يعد البعض أن عددًا من أفكار محتوى الكتاب فيه فرض لوصاية من نوع جديد، فيه تحذيرات صارمة، في حين أن طبيعة الإنسان تتسم بالتغير السريع، وبالتنوع الشديد، وحاجتها الفطرية لبلوغ النضج، وإلى خوض تجارب تحقق من خلالها التدرج والارتقاء.. كما لا يمكن حصر التجارب البشرية في نماذج مثالية محدودة، وأن المؤلف لم يسق من الآراء إلا ما يؤيد موقفه المعارض.. إلا أننا نجزم بأن محتوى الكتاب يستحق الاهتمام.