عبدالرحمن الحبيب
فترة حظر التجول أتاحت لعشاق القراءة إعادة تداول بعض الكتب العتيقة ذات الطابع الخاص التي لا يفنيها الزمن، مع تعاطف أكثر لأولئك الذين ألفوها وهم في حجز بجزيرة أو سجن أو حجر صحي، متيحة فرصة تبادل مشاعر الحجر من أجل انطلاقة لعوالم عجيبة خارج المكان والزمان تختلط فيها الوقائع بالخيالات والذاكرة بالنسيان..
من تلك الكتب الجذابة هي للإيطالي ماركو بولو أشهر رحالة عصره؛ الذي كان شاباً يافعاً عندما بدأ رحلاته مع والده وعمه عام 1271م متوجهين إلى الصين، وعند عودته بعد ثلاثة وعشرين عاماً، اعتقل لاحقاً في جنوة عام 1298 كأسير أثناء الحرب بين الدويلات الإيطالية.. قضى بضعة شهور بالسجن، لكن عقله كان يتجول بحرية متجاوزاً جدران القضبان بكتابة رحلات طافت ممالك الشرق الأوسط والصين وجنوب شرق آسيا والهند وروسيا؛ قام بإملائها على أشهر الكُتاب آنذاك رستيتشلو من بيزا، رفيقه بالسجن.. واصفاً رحلاته القاسية المضنية لكنه استمتع بها كمغامرات وألهم بها المغامرين على مر الأجيال.
بينما كانوا يشقون طريقهم عبر الشرق الأوسط، أذهل بولو ما رآه، وقدم روايته ومشاق الطريق ومرضه الشديد في «أفغانستان»، ثم عبور صحراء جوبي «يقال إن هذه الصحراء طويلة للغاية بحيث ستستغرق سنة من نهاية إلى أخرى.. وفي أضيق نقطة يستغرق الأمر شهرًا لعبورها. وهي تتألف بالكامل من جبال ورمال ووديان. لا يوجد شيء على الإطلاق لأكله». أخيرًا، بعد أربع سنوات، وصل إلى الصين وأعجبه تطورها بما يفوق إيطاليا بمراحل.. وخدم الإمبراطور قوبلاي خان (حفيد جنكيز خان) لنحو عقدين. أدى انغماس بولو بالثقافة الصينية إلى إتقان أربع لغات، واستخدمه كوبلاي خان كمبعوث خاص لمناطق بعيدة من آسيا ثم عينه بمناصب عليا بالإمبراطورية المغولية.
تقدم روايات بولو لمحات مذهلة عن المجتمعات التي واجهها: دياناتهم وعاداتهم واحتفالاتهم وأسلوب حياتهم.. طريق الحرير والتوابل الشرقية.. الأحجار الكريمة والنباتات الغريبة والوحوش البرية.. ونال الكتاب شعبية عارمة ونادرة في عصر ما قبل الطباعة، رغم أن معاصريه اعتبروا ما جاء فيه مجرد خيالات..
الكتاب تُرجم لجميع اللغات الحية تقريباً، بينها العديد من الاختلافات حيث النسخة الأصلية مفقودة. وقد تُرجم الكتاب للعربية بعنوان «رحلات ماركو بولو»، وهو نفس العنوان بالإنجليزية، أما بالإيطالية فكان «عجائب العالم»، وكانت تُعرف بالأصل باسم «وصف العالم» بلغة شمال إيطاليا (فرنسية إيطالية).
تنقسم الرحلة إلى أربعة كتب (الطبعة الإنجليزية). يصف الكتاب الأول أراضي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، بينما يتناول الثاني الصين وقصر قوبلاي خان وبلاطه وتنظيم دولته ورفاهيته العجيبة وقصوره الفخمة التي أذهلت بولو.. ففي قصره الرخامي تلمع أسقف قرمزية تتلألأ مثل الكريستال في الشمس، وجدران ممتدة بالأميال تلهو فيها الغزلان والأيائل.. في الكتاب الثالث وصف لبعض المناطق الساحلية بالشرق: اليابان، الهند، سريلانكا، وجنوب شرق آسيا، والساحل الشرقي لإفريقيا؛ بينما يصف الكتاب الرابع بعض الحروب التي حدثت حينئذ بين المغول وبعض مناطق أقصى الشمال، مثل روسيا.
الكتاب مليء بعجائب القصص الواقعية والخيالية، التي اعتبر أغلبها آنذاك مستحيلة بالنسبة لعقول الغربيين ولم يصدقه أحد.. ربما صدقوا عن الثعابين العملاقة التي تبتلع الإنسان، لكن من يصدق حينها أن هناك حيواناً بشكل وحيد القرن في سومطرة، «وحش قبيح للغاية» قرنه فوق أنفه! ومن يصدق أن هناك نقوداً ورقية (ليست معدنية) صينية، أو معدل سعر الخيول العربية بالهند.. فتلك أشياء غير معروفة في الغرب بالقرون الوسطى..
إلا أن ثمة ما لا يقبله العقل أو يعارض الوقائع مثل: السمك الجورجي الذي لا يظهر إلا في عيد «الإيستر»، الخليفة المسلم الذي حُجز حتى الموت مع كنوزه، الإسكافي المسيحي في بغداد الذي بإيمانه يحرك الجبال، وعمود الكنيسة المعلق بالهواء بسمرقند، طيور جارحة تسترجع الألماس من الوديان الهندية، جُزر ذات جنس واحد ذكور أو إناث في بحر العرب! لكنها قصص كتبت بطريقة جذابة لعالم سحري، وبتفاصيل مذهلة عن حضارات لا يعرف الغرب عنها شيئاً البتة.
غالبية معاصريه كذبوه، بل يقال إن الأطفال كانوا يطاردونه في شوارع البندقية مطالبينه بإخبارهم بكذبة أخرى.. حتى عندما كان يحتضر على فراش موته، قام أصدقاء ومحبو كتابه بزيارته، وحثوه على الاعتراف بأن كتابه كان خيالًا: ألن تتراجع يا بولو؟ فرد عليهم: «لم أخبر بنصف ما رأيته».
حالياً، بعض الباحثين يشككون بزيارته للصين وأنه ربما كان يُعيد قصصاً سمعها من مسافرين آخرين، إلا أن أغلب التقييمات الحديثة ترى أنه رحالة وصفي وليس تحليلياً، تم التحقق من كثير مما ادعى أنه شاهده؛ ويخلص المؤرخ مارك إلفين إلى أن الاحتمال المرجح أن العمل محل ثقة بشكل عام مع النظر إليه بعناية لتمييز الخيالي فيه وفقاً لعقلية ذلك الزمان.
استغلال بولو لفترة حجزه بدلاً من الانتظار الممل، جعل من كتابه أهم كتب الرحالة مع كتاب ابن بطوطة الذي تلاه بنصف قرن.. هذا كتاب ألهم مغامرين كُثراً للانطلاق ورؤية العالم. بعد قرنين من وفاة بولو، انطلق كريستوفر كولومبوس عبر المحيط الأطلسي على أمل إيجاد طريق جديد إلى الشرق، وكان معه نسخة من كتاب بولو.. ويبالغ البعض زاعماً أنه ألهم الأوروبيين لاكتشاف أرجاء المعمورة خارج قارتهم الضيقة.