د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** رحل محمد التابعي عن ثمانين عامًا 1896-1976م وثمانين صندوقَ أسرارٍ مغلقًا- كما كتب في مقال له عن « الأمانة الصحفية وسر المهنة»- فلم يستطع أن يقول» الحقَّ كلَّ الحقِّ ولا شيءَ غير الحق»، وأعطى أمثلةً لعناوين لم يبحْ بها تمسُّ أسماءً كبيرةُ متسائلًا عن أمد السرية المهنية؛ أهو دائم أم مؤقت؟ وما هي نظرته لنفسه لو باح بما التزم بكتمانه، وهل تستقيم حدود الصداقة إذا كشف أسرار الصديق سعيًا لتحقيق سبق؟
** التابعي - وما الظنُّ أن معنيًا بالثقافة والإعلام يجهلُه - هو مؤسسُ مجلة « آخر ساعة» 1934، وأمير الصحافة المصرية كما كان يُلقب، وأستاذ مصطفى وعلي أمين ومحمد حسنين هيكل وإحسان عبدالقدوس وموسى صبري وكامل الشناوي وغيرِهم، وكانت كتاباته مدار أحاديث العامة والخاصة، أو كما رُوي عن مصطفى أمين أنها « تهزُّ الحكومات وتسقط الوزارات»، وعلاقته بالفنانة أسمهان مثار حكايات.
** لخص موقفه بأنه إنسان؛ فكيف يحترم نفسه لو أفشى ما ائتمنه عليه ملك الأفغان «أمانُ الله» حول زوجته « ثريا»، أو ما اطلع عليه عن «الملك فاروق» حين بكى، وكانا معًا في الإسكندرية، أو ما خصه به «فؤاد سراج الدين ومكرم عبيد ومصطفي النحاس وأحمد حسنين» وسواهم، وأكَّد أنه لن يشيَ بتفاصيلها لأنه إنسان.
** قد نتفق على أن وسم « إنسان» ليس مجانيًا يمكن خلعُه على ذوي الذمم المفتوحة الذين لا يعنيهم صدق الوقائع وأمانة النقل وحجم السرية والخصوصية بمقدار ما تحكي لهم تكسبات شهرةٍ ومال وحضور؛ فهل يكون إنسانًا من يتجاهل الحق أو يجرح الثقة أو يُعدل في الوقائع لتنتقل من مدار العامة إلى توثيق الخاصة؟ وهل سيُرى مؤرخون جددٌ لم يزنوا كلماتهم بميزان الحلال والحرام «الديني أو العُرفي أو الأخلاقي أو العلمي»؟
** لو فعلوا لما رضُوا أن يُنسب إليهم ما يرسم علامات استفهامٍ ومعلقات ملام، غير أننا نتعلم من التأريخ أن أولَ من اجترأ عليه مؤرخوه أو من حُسبوا من مؤرخيه، وبخاصةٍ ممن أحالوه إلى رواياتٍ شعبوية للبيع الناجز كما في مدرسة «جُرجي زيدان» 1861-1914م المتوارثة من لدن الحكواتية والوضَّاعين حتى روائيي البوكر؛ فطغى الخيال واستُؤنست الإثارة، وخَلف من يريد تحويل التأريخ إلى أساطير وأباطيل ومسامرات ومزايدات؛ فأضافوا «ضِغْثًا إلى إِبَّالة».
** التأريخ هو الإعلامُ اليوم، ودراسات الأَعلام هي نفسها معاجم الرجال والنساء، وحقها أن تُلخِص وتستخلص، وتَروي فتُروي، وتُحاكم فتحكم بمنهجيةٍ تستدعي ولا تستعدي، وتتميز فلا تتحيز، وما يُظنُّ حكاياتٍ عابرةً في زمنها ستكون معبرةً في أزمانٍ تالية، ومن اختزل سقوط البرامكة بقصة العباسة أخت الرشيد -مثلما صنع زيدان فصُدِّق- لن يتورع تابعوه من أن يختلقوا أجواءً هائمةً لا تُظلُّ وقد تُضلّ.
** الانتشارُ دثار.