«عيد 1441هـ التوقع والحقيقة» في ليلة عيد الفطر المبارك عام 1441هـ -2020م (عام جائحة «فيروس كورونا» العالمية)، وتحديدًا لما اقترب الوقت الذي كنا نعيش فيه ما اعتدناه من مظاهر العيد الجماعي طوال عقود من السنوات، ومع توقعاتي -وغيري- بهيمنة الشعور بافتقاد ذلك المألوف، وما «قد» سيصحبه من حنين وشوق إلى ما كان، و»ربما» من إحساس بعض الناس بالضيق والأسى على ما هم فيه من حظر استمر حتى العيد، أقول: لما أزف ذلك الوقت جاش الوجدان بأبياتٍ متواضعة وجدتني أسترسل بها، وشعرت أن صوت العقل لحظتها زاحم صوت العاطفة في داخلي فأملاها عليّ.
قلت:
العيدُ -في معناهُ- فرحةُ صائمٍ?
منَّ الإلهُ عليهِ بالإتْمامِ
فالبهجةُ الكبرى لهُ -إنْ رامَها-
شكرٌ يَليْقُ بمُجْزِلِ الإنْعامِ
جَمعُ الأحبةِ غايةٌ لكنها
عَزّتْ كما اللذاتِ في الأسقامِ
في ظلّ جائحةِ «الكُرُونا» قُطّعتْ
أسبابُ وصلٍ كُنّ للأقوامِ
كأسُ الضرورةِ بعضَ حينٍ علقمٌ
لِيكونَ موعظةً لِذي الأفهامِ
فلعلّ ربي أنْ يُبدلَ حالنا
في قادم الأوقاتِ والأيامِ
مر الوقت الساعة فيه تتلو الساعة، وإذ بالفجر يحين، فَعَلا صوت المؤذن لصلاة الفجر..
صلينا، وليس بعد الفجر إلا صلاة العيد؛ حينها مر أمامي سريعًا شريط الأحداث المعتادة، وأبرز ما فيه لوحة تبدو فيها ممرات الحارة عامرة بالذاهبين إلى الجامع رجالاً ونساءً وأطفالاً، وهم في أبهى حلة، وقد حمل بعض الصغار شيئاً من الحلوى والعيديات لتوزيعها بعد الصلاة.
تراءت أمامي صالة تجمع الأقارب الأحباب، الكل فيها جذلان وبملبسه مزدان، يسلم كل منهم على الآخر بسعادة واستبشار.. يحمدون الله على نعمه، ويهنئون بتفضّله عليهم بالإتمام، ويدعون بالقبول والرضوان.. يتبادلون الحديث شيقًا متصلاً، وأمامهم من المأكل والمشرب ما لذّ وطاب.
انقطع هذا الشريط فجأة، وما قطعه سوى صوت التكبيرات تضج بها مكبرات الصوت من مسجدنا القريب والجوامع المحيطة بالحي، ثم تلك التكبيرات التي تعمر البيت منقولة من الحرم المكي الشريف. صوت اقشعر له البدن، ورفَّ له القلب، ودمعت معه العين، شعور لا يوصف انتابنا.
إنها فاتحة العيد، إنها الشعاع الأول لشمسه طل على كوننا. نعم، هو العيد حقًا بدأ!
البخور كالعادة في مثل هذا الوقت من كل عيد عبقَت برائحته البيوت، وتشكلت منه سحابة ترسم إحدى صور الاحتفاء به، وهاهم أهل كل بيت في زينة العيد المعتادة، لم يثنهم عنها انتفاء اللقاء بالأقارب والجماعة. وها هي ربة البيت تقدم لهم التمرات اقتداءً بالنبي، واتباعًا لسنته الوضاءة، وتُسابق الوقت لتضع اللمسات الأخيرة على ما جهزته بحماس وحبٍ للاحتفال مع عائلتها الصغيرة المتحفزة لتحقيق السعادة والأنس.
هناك عائلات هيأ الله فيها من يصلي بأهله صلاة العيد (جدًا أو أبًا أو أخًا كبيرًا)، وهذا بحد ذاته حدثُ فريد لم يتنبأ بحدوثه يوماً ما عقل، حدثٌ ملأ القلب حبورًا بطعم جديد لم يُختبر من قبل،.. حبور نبضُه الحمدُ لله الذي كتبنا فيمن أحيا الشعيرة في بيته، وكبّر وصلى ولم يفته سوى خطبتها.
وفي المجلس الذي جمّلته الأم والبنات بالزينات، وعَمُرَ بالسلام والتهاني والدعوات، وانتعش بالأهازيج طاب الحديثُ وضجت الضحكات، ودارت القهوة مصحوبة بأنواع الحلويات، وعدسات جوالات الأبناء تسجل اللحظات، وتلتقط الصور الجماعية لتوثق الذكريات، كما فتحت العدسات للسلام على المقربين من الأهل والأحبة بالصوت والصورة.
لقد كانت مدن وطننا الغالي كلها في فترة حظرٍ كلي فُرض لمصلحتنا ولأجل سلامتنا، لأجل الحد من انتشار فيروس كورونا المستجد «كوفيد -19»، ولا شك أن هذا الوضعٍ جعل للعيد هذا العام وللاحتفال به طابعًا مختلفًا عن كل الأعياد قبله -بإجماع الجميع- ولكن، وبعد أن عشنا الحدث وانتهى، وصار بتيسير الله وتوفيقه واقعًا توارى معه ما كان من تصور وتوقّع وظنون، اتفقت الأقوال -وأعني بها رأي عائلتي وكثير من العائلات التي استنرت بآرائهم قبل الكتابة- اتفقت على أنه كان عيدًا ميسرًا، سعيداً، وتجربة متميزة رائقة، وذلك بفضل الشعور بالرضا عما قسم ربنا، والقناعة بما أمر به قائد البلاد ولي أمرنا.
تجربة جاءت -رغم فقد بعض الترتيبات والمظاهر المعتادة، ورغم افتقاد كثير ممن كنا نلتقي بهم- جاءت مشحونة بكثير من الحميمية والألفة والسرور. كما أن البساطة التي صبغتها أنتجت هدوءًا وأناقة وقبولاً.
تجربة أثبتت أن السعادة شعورٌ نخلقه نحن بأدواتنا.. وأثبتت الشيء الكثير مما أدركتموه؛ ولذا فأنتم في غنىً عن أن أثقل عليكم بذكره وأنص عليه، و»العارف لا يُعرّف»!
دامت أيامكم عامرة بالبهجة ومظاهر الفرح وإحساس السعادة..
وكل عام وأنتم وأسركم وأحبتكم وبلادنا وقادتنا ومقدراتنا بخير محفوظين من كل شرّ..
والحمد لله مدبر الأمر ملء السماء وملء الأرض.