عبدالسلام العزوزي
اسْتَلَّ فيروس كورونا نهم الصحافة العالمية من غوصها في تفاصيل الأحداث حتى الملل أحياناً، أحداث مخضبة بدماء صراعات سياسية أو اقتصادية أو طائفية أو عرقية هنا وهناك، يدفع بالزيت فيها على النار كبار صناع القرار، حماية ودعماً لهذا الطرف أو ذاك في معركة حربية بالأساس الخاسر الأكبر فيها هو الإنسان الذي يشكل عصب الصراع وعدته، تستعمله القوى المتحكمة في المعركة كالحطب الذي يزيد من لهب النار وتوهجها، جراء تسخير القوة الناعمة من خلال خَط «بْروبَّغَندا» صحافية مدروسة ومحبوكة بعناية فائقة، وبعدة وعتاد تقني رقمي وورقي ووسائطي يجعل الإنسان في قلب الصراع ولو من بعيد، تُغْسَل الأدمغة لِتُغَير مجرى تفكيرها ورأيها لتتناغم وخطة هذه «البروبغندا» المرسومة بَوصَلتُها سلفاً.
اسْتَل فيروس كورونا الصحافة من شغفها وتمتعها بتنوع وتشكل هذه الأحداث بجاذبيتها وراهنتيها الدموية منها والاستشرافية الفاتحة لبوثقة أمل في الحياة بسلام ورخاء، وأدخلها بؤرة صراع واحد وأوحد غير منتظر وغير محسوب العواقب وغير مرئي أيضاً؛ ما جعل دهشة الصحافة أكبر من سلطتها وسطوتها «كقوة ناعمة» توجه الأحداث وتتحكم في مصير السياسات العمومية وفي الاستراتيجيات الدولية في مختلف المجالات، أدخلها بؤرة صراع بموضوع محدد سلفاً بحيثياته وتركيبته وشخصياته المتفردة، إلا زمنه غير معروف وغير محدد، كما هذا الفيروس الكوروني غير المرئي الذي حير العلم المعاصر وعلمائه.
الصحافة في «كمامة» الحدث الأكبر
دخل فيروس «كوفيد 19» المعركة لوحده ضد الكل بدون حليف؛ ولا من صانع للقرار له الجرأة في منازلته في حلبة الصراع. يستبيح جسم الإنسان كما يستبيحه الهواء الذي ينعشه، عكس هذا الفيروس الذي يلج إلى الجسم ليخرب شرايينه بِشَره مُدْهِش وفظيع.
الحدث الأكبر والأفظع الذي أنهت به الألفية الثالثة عُشَرِيّتها الأولى هو سيطرة هذا الفيروس على الصحافة بكل تلويناتها وأشكالها وعناوينها ولغاتها، وأصبح لسان حالها يلهج بهذا الوباء وبمعاركه الكبرى التي ينتصر فيها بدون أي مقاومة، ينتقل من قارة إلى قارة ومن جسم إلى آخر دون أدنى عناء وبسرعة قياسية وغير مسبوقة، يترقبه العلماء والخبراء والمحللون عن كثب، وتنطق بشجاعته الصحافة العالمية التي وضعها تحت رحمته لتنقل له وعنه شراسة فتكه بالإنسان لا يفضل شخصاً عن آخر مهما علا شأنه ومستواه، ومهما اختلفت عقيدته وجنسه وعرقه وجغرافيته.
مختبر «ووهان» ينصب للفرنسيين المقصلة (Guillotine)
تحصي أرقام ضحاياه بالآلاف وتشحذ ألسنة المحللين والخبراء لتفتح لهم فضاء للنقاش وللتكهنات وللغط كثير وكبير دون جدوى، كأنما تنفذ هذه الصحافة أجندة من أجندات الفيروس القاتل الذي يشتهي تمويه الناس وإشغالهم في نفوسهم معبئين بفزع فيروسي خطير ينهل من راحتهم ليصهرها نحو جحيم غير منتظر، لكن تدبيره فات ألف عام وخطته رسمها العقل الصانع للفزع والقلق طمعاً في الاحتواء وفي البقاء فوق تاج الفيروس يغني لسطوته وجبروته، لكن هيهات... فلقد أتت رياح الفيروس الكوروني بما لايشتهيه تاج كبار صناع القرار أو من تتهمهم أشرطة يوزعها مختصون ومتتبعون نافذون في القرار السياسي الدولي، تجوب العالم اليوم تشير إلى أن الفيروس قد انسل من مختبر فرنسي الأصل بمدينة «ووهان» قبل بيعه للصين الشعبية، وسَرَح ينخر أجساد البشرية بعد ما كان محجوراً عليه في هذا المختبر الذي اعتبره الشريط الفرنسي أنه بمثابة المقصلة (Guillotine) التي نصبها صناع القرار الفرنسي، تَقْصِل أنفاس الناس والفرنسيين في مقدمتهم وليس رؤوسهم هذه المرة، كما كانت هذه الآلة الفرنسية الصنع تفعل في الفرنسيين خلال الثورة الفرنسية سنة 1789 ، حيث قُطِعت بها رقاب عديدة منهم الملك «لويس السادس عشر» والملكة «ماري أنطوانيت».
الفيروس يفتك بالقارة العجوز
أمام هذا الحدث الجلل الذي ما يزال يرعب الناس ويفتك بأرواحهم، وجدت الصحافة نفسها غارقة في قصص إنسانية درامية غريبة ومقززة للنفس وللمشاعر البشرية، ولم يجد الصحافيون بداً من متابعة هذه المجزرة الدموية بالرغم من هول مخاطرة الاشتغال فيها، لأنهم مأمورون بتعليمات صارمة من التاج الفيروسي الخطير، يدبجون ملايين المقالات والاستجوابات والريبورتاجات وتفاصيل القصص الدرامية والتحاليل والاستنتاجات والتكهنات ويخطون يومياً بل كل لحظة أرقاماً مهولة عن الوفيات وحالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد الذي كلما غزا بلداً ما إلا وأشرس في غزوته البطولية من أول أيام الغزو، يفتك بأرواح الناس دون هوادة ولا مراعاة للقوانين الدولية المنظمة لقيم وشروط الحروب وتدابيرها وسلوكياتها التي تراعي في حدها الأدنى الشروط الآدمية للإنسان.
هكذا يُروع الفيروس التَّاجي المجتمع ويفرض عليه الحظر الصحي القسري حتى لا يفتك بما تبقى من ضحايا حربه الضروس غير المعلنة على البشرية وعلى حياتها وأمنها وسلامتها، ليبدأ سُلم أرقام الضحايا ينزل تدريجياً بعد توالي الأيام كما فعل في «ووهان» الصينية أول الأمر وبعدها طار إلى أوروبا فأرهبها ونزل فيها كالغاصب الجبار المتغطرس يخنق أنفاس القارة العجوز التي زكمت رائحة الموت فضاءاتها الخضراء الجميلة، ولوثت مياه أنهارها الهادرة الرقراقة، وأسكنت صمتاً مطبقاً على صخبها المعهود ومجونها المشهود، حتى أضحت مدنها خراباً لا حركة فيها إلا لقطط أو كلاب ضالة تبحث عن مأكل أو مشرب في شوارع وزقاق روما وباريس ومدريد وغيرها من دول القارة الأوروبية، يسطو عليها الفزع والرعب بمخالبه الفتاكة، ويحصي موتاها التي تدفن بشكل جماعي وفي أبشع صور تتقزز لها النفس البشرية وترفضها القيم الإنسانية الكونية.
كورونا يستبيح الحياة في أمريكا
وبعد أن ثَبَّت مخالبه في الجسم الأوروبي، وهدأ من روعه قليلاً ليستأنس بالمجتمع الأوروبي ويتعايش معهم، ما دامت الحرب قد لا تضع أوزارها في مقبل الأيام القليلة. طار على جناح السرعة إلى الدرك الكوني الأمريكي بقامات خبرائه وعلمائه وثروته وسلاحه وعتاده الحربي الفاتك بالشعوب المستضعفة والمستصغر لباقي دول العالم الناهي الآمر في المنظمات الدولية المقررة والضابطة للسياسات العمومية الدولية ولماليتها واقتصادها وحتى لمقياس حركيتها وتطورها، يُعاقب كل من خالف رأيه ويسند كل من خنع له ونفذ سياسته وتعليماته الجبارة غير المنصفة للشعوب ولحكامها الخنوعين الخائفين على سلطة كراسي حكمهم من غضب القرار الأمريكي. طار يفتك ويستبيح أرواحاً بريئة أمام دهشة الأمريكان بجبروتهم وقوتهم العسكرية والمالية، وعجز ترسانتهم الإعلامية الضخمة أمام اختراقه السريع والعجيب والمثير للأرواح البشرية، ولم تفلح تحليلاتهم الطبية المختبرية ولا تحاليل خبرائهم الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين في حل لغز هذا الفيروس المدهش الذى يرى ضحيته ولا تراه.
وهكذا غير من اهتمام وبوصلة «القوة الناعمة»، كما يحب أن يسميها الأمريكان من متابعاتها للحروب التي أشعلتها في أكثر من دولة، إلى الاهتمام فقط بقضايا وعجائب هذا الفيروس الكوروني في تَخلِّ قَسْري وإجْباري عن تسخير «البروبغندا» الإعلامية الأمريكية القوية الهجومية التي بعثرت أوراق السياسات العامة للدول وخلقت صراعات داخل هذه البلدان، أو فيما بينهم لتمكينها من السيطرة على الوضع السياسي فيها واستغلال ثرواتها، مثل ما يحدث الآن في العديد من بؤر التوتر في أمريكا اللاتينية وأفغانستان وإيران والعراق والخليج العربي وليبيا وسوريا واليمن ولبنان ودول أفريقية وآسيوية أخرى.
ترقب خطر «طريق الحرير» الصيني
ولما كنا نراقب بفتكه حيناً وبحذر أحياناً،
ما كان يحدث في مدينة «ووهان» الصينية من فتك للأرواح جراء هذه الجائحة الوبائية، لم نكن نعي جيداً أن هذا الخطر الوبائي يمكنه أن يستعمل «طريق الحرير» ليصل بسرعة البرق إلى الطرف الآخر من الكرة الأرضية، قاطعاً آلاف الكيلومترات ليحط الرحال بالجارة الشمالية الأيبيرية قبل أن يحجز إقامته عندنا في الثاني من مارس من العام الجاري ولا يزال مقيماً وقد استحل واستمتع بهذه الإقامة التي ما فتئت السلطات المختصة تجتهد ليل نهار لإخراجه من البلاد ومن أجسام الذين شفي منهم الكثير، وتوفي منهم القليل مقارنة بالأرقام المهولة التي ينطق بها الرصد الصحي اليومي في القارة العجوز وبالأخص في الولايات المتحدة الأمريكية التي تتصدر قائمة أكثر الضحايا الذين فتك بهم وباء «كوفيد 19».
في هذا الظرف الترقُّبي القبْلي الذي نشطت فيه السخرية من هذا الفيروس؛ حيث تماهت معها الصحافة والفضائيات ووسائط التواصل الاجتماعي التي أثْرت الفن الساخر خلال فترة الحجر الصحي وقبله، حتى صرخت منظمة الصحة العالمية بأعلى صوت، بأن «كوفيد 19» أصبح «جائحة» عابرة للقارات. آنذاك، بدأت صحافتنا تستجمع تلابيبها وقواها وتخط سياستها التحريرية الجديدة أمام هذا الوارد العجيب الخارق لكل تصور؛ التي خارت قواها أمام صرامة هذا الفيروس القاتل حتى أعتى الإمبراطوريات الإعلامية العالمية، وهي تبحث عن أنجع سلوك وسبيل لإرضاء المقيم الجديد قسراً على البلاد والعباد، والتمكن من متابعة أنشطته وبرامجه وفق إستراتيجية ظرفية؛ طارئة، استعداداً لحرب غير معلنة سلفاً ضد عدو «شبح» شرس وغير مرئي.
الصحافة تضبط عقارب ساعة مهترئة
في هذا الظرف بالضبط، كانت الصحافة تضبط عقارب ساعة مهترئة على برنامج قسري فرضه نظام الحجر الصحي، وهي تحاول عبثاً استجماع قواها لتكون في قلب الحدث، وتتابع عن كثب تفاصيل واقعة هذه الحرب الفيروسية غير المعلنة لتجد نفسها حقيقة؛ هي الحدث نفسه بعد مسار لتنظيم مهني بدون فرامل ولا مقود، ما كشف عن وجهها الفعلي المكتئب، زادها قرار منع الطباعة والتوزيع تجاذبت حول حيثياته ورهاناته إطارات مهنية بصوت بُحَّ في ظل صخب عويل الحرب الفيروسية التي يقودها البطل «كوفيد 19»، ويتنصر فيها لوحده على الأقل لفترة زمنية يشبع فيها نهمه من دماء أبرياء. في هكذا ظروف، يمكن اعتبارها ظروف حرب غير معلنة ومع عدو غير مرئي، يواجهه الصحافي كل يوم ومع كل خطوة نحو ساحات العمل لتعقب معارك هذا الفيروس الضارية هنا وهناك لنقل الحقيقة إلى الرأي العام وصد الباب في وجه هذا الإلكتروني غير المهني الذي أشبع الرأي العام أخباراً زائفة أحد، وأشغل الدولة برصد هذه الأخبار المشوهة والمموهة لحقيقة أحداث هذه المعركة الفيروسية التي سرعت بالعديد من القرارات والإجراءات؛ من خلال تدبيج بيانات وبلاغات تكذيب متواصلة إلى حدود كتابة هذه الأسطر.
«الإلكتروني» يفتك بنبل «القوة الناعمة»
ولم يلتفت إلى الصحافة والصحفيين أحد في ظل ما يقوم به ما يسمى بـ»الإعلام الإلكتروني» من توزيعه للإشاعة يميناً وشمالاً حول فيروس كورونا، ضارباً عرض الحائط كل القيم والمواثيق الأخلاقية والمهنية في ممارسة مهنة الصحافة، مسجلاً انتصارات هنا وهناك، يفتك بنبل «القوة الناعمة» في ظرف قاهر لكل القوى العالمية وإستراتيجيتها وخططها.
وبالرغم من حالة الطوارئ الصحية، فقد جاهدت واجتهدت الصحافة الورقية لتكون بالفعل في الصف الأمامي مثلها مثل باقي الإطارات المهنية الأخرى، في ظل ظروف أقل ما يمكن القول عنها إنه يجب أن تكون بمستوى الجهد المهني المميز والنبيل المبذول من طرف الصحافيات والصحافيين المهنيين، وحرصهم جميعاً على نقل حقيقة الأحداث وتسويق الصورة الواقعية المشرفة لجنود الصف الأمامي من أطقم طبية ونساء ورجال أمن ساهرين على تنفيذ الحجر الصحي ليل نهار، وعمال نظافة ومختلف أطر الدولة والمواطنين الذين أبانوا عن رقيهم وروح تضامنهم اللامشروط في ظل هذا الظرف الصحي الطارئ والصعب.