هدى الشريف
في ظل تلك الأزمة واالتباعد الاجتماعي المفروض واضطرارنا للتقوقع داخل منازلنا، نتأمل في حياتنا المضطربة والصمت يحيط بالمدن حولنا، يمكننا أن نصبح أكثر وعياً بأنفسنا، وعائلاتنا وأحبائنا. يمكننا التفكير في الطريقة التي عشناها والطريقة التي تعاملنا بها مع الآخرين ومع الحياة، يبدو أن العيش حياة أكثر وعياً في عالم مختلف عن الماضي هو نتيجة جديرة بالاهتمام للأزمة التي تجتاحنا الآن.
جميعنا.. نختبر ذات الدرس ونعيش نفس التحدي. باختلاف أجناسنا وألواننا ولغاتنا ودياناتنا ومعتقداتنا.. جميعنا نبحر في ذات السفينة نخشى الغرق.. في خندق واحد ننتظر النجاة.. جميعنا ننظر للمستقبل بشيء من الأمل بأن يأتي محملاً بالمفاجآت، ليمسح عنا ذلك الحزن وينسينا تلك الفاجعة من أجل الأجيال المقبلة. بعد أن فقد الكثير منا أحبتهم بسبب هذه الكارثة التي حلت بنا جميعاً.. على حين غرة.. فأخذت منا من أخذت وتركت بعضنا في حيرة وخوف من القادم.. نغفو في محاولة منا للهرب من ذلك الواقع لنصحو على عالم آخر ليس عالمنا الذي نعرف سيتغير كل شيء أمامنا.. فلا نحن سنعود كما كنا ولا العالم الذي نعرفه سيعود كما كان مرة أخرى.
حياتنا قبل الأزمة، كانت عبارة عن دوامة سريعة نركض فيها بلا توقف، والأيام تجري سريعاً ومهامنا لا تنتهي بل هي في سباق مع الزمن. فجأة ودون سابق إنذار أو وعد اجتاح ذلك الفيروس العالم بقوة وإصرار وأجبرنا على التوقف رغماً عنا.. أوقف عجلة الدوران واضطرنا للوقوف والتأمل من بعيد.
بعد أن كانت الأسواق والمقاهي هي الشغل الشاغل للعديد منا، صرنا الآن اجباريًا نلتزم بيوتنا خوفاً على حياتنا, هل علمنا أن هناك الكثير من أوقات فراغنا كانت تضيع هدراً.. وأننا كنا ننشغل بكل شيء من أجل لا شيء فهلا تفكرنا في تلك النعم التي عشنا سابقاً؟ هلا تأملنا كم نحن صغار جداً وضعفاء جداً هزمنا من فيروس مجهري أطاح بالجميع أغنياء وفقراء دون تفرقة وكأنه يضع الجميع في مستوى واحد فلا الغني استطاع النجاة بسبب ماله ولا ذو المنصب نجح في الفرار منه بسبب منصبه أو مكانته الاجتماعية ولا صاحب العلم نجا بسبب علمه. أتى هذا الفيروس ليتحدى الجميع وليحجم قدرات البشر. ليوقف كل شيء ويجبرنا على التوقف أمامه صاغرين.
هي أزمة أعادتنا لنقطة الصفر.. لنبدأ من جديد ولنعيد حساباتنا في الكثير من أمور حياتنا. علمتنا الكثير من الدروس والعبر.. في وقت وجيز جداً لا يمكن تحقيقه في أقوى الجامعات، أرغمت البشرية في كافة بقاع المعمورة على البقاء في منازلهم بعد أن نسي الكثير منا معنى البيت. منحتنا فرصة كبيرة.. لقضاء وقتنا مع أطفالنا وعائلاتنا الذين أخذتنا منهم مشاغل الحياة، لتفقد أقرباءنا وأحبتنا الذين ربما مرت سنوات طويلة على لقائنا بهم أو السؤال عنهم.
تلك الأزمة، حددت لنا مسؤولياتنا، وضحت لنا احتياجاتنا.. مهامنا الحقيقية والتزاماتنا تجاه بعضنا رسمت أدوارنا في الحياة. الآن أجبرنا على الجلوس في منازلنا.. وصار لدينا الوقت الكافي جداً لمناقشة بعضنا البعض.. للتعرف على احتياجات أطفالنا.. بل ربما للتعرف على أطفالنا.. وعائلاتنا من جديد. إحياء علاقاتنا لأحبتنا من جديد، القرب من بعضنا والتواصل والتعايش اليومي، الالتفاف حول بعضنا والتسامر بحكايا وقصص جميلة من أجمل ما تختبره العائلات في هذه المحنة العالمية. لنجعلها عادة لا تنقطع، حبنا لأفراد أسرنا وفتح الحوار بيننا ولغة التواصل والمشاركة الوجدانية والحياتية لكل تفاصيل حياة كل أحد فينا.
أدى هذا الوباء إلى ما يعد فعليًا أكبر «تجربة» عائلية تختبرها الأسر من جميع النواحي. يحاول الناس إيجاد طرق غير تقليدية للتواصل مع العائلة والأصدقاء. تبني أنماطاً جديدة لإصلاح أخطاء الماضي. الحجر المنزلي أتاح لنا هذه الأوقات واللحظات للتواصل مع بعضنا وإيجاد روابط أعمق وأكثر معنى من ذي قبل. في ظل هذه الفترات العصيبة، تبنت العديد من العائلات إجراء تغييرات كبيرة في الروتين اليومي العائلي. فمنهم من ابتكر وسائل ترفيهية وتعليمية وأنشطة لأفراد الأسرة ومنهم من اقتنص تلك الفرصة المتاحة في الفراغ الكبير بشغل الوقت بالدورات والتدريبات المتاحة عبر الإنترنت بشكل مجاني والتي وفرتها العديد من مؤسسات التدريب تضامنا مع الأسر بسبب الجائحة.
رغم تلك الأزمة الطاحنة.. فإن فيروس كورونا جمعنا من جديد وأعاد تشكيل علاقاتنا العائلية، بل أعاد تعريف مفهوم الأسرة ومعنى العائلة وجعلنا ندرك متع الحياة البسيطة الأخرى.
أجبرتنا تلك الأزمة عن الاستغناء عن أشياء كثيرة كنا نعتقد باستحالة تخلينا عنها، كنا نعتقد أنها جزء منا من حياتنا من يومياتنا.
في البداية كان الأمر صعباً للغاية على الجميع.. فالتعود على نمط حياتي لسنوات عديدة يصعب كسره في وقت وجيز وتحت ظرف طارئ. لكن شيئاً فشيئاً أدرك العديد من الناس وحتى الأطفال ذلك التغيير وتكيفت العائلات مع الحياة في المنزل وخاصة مع ما لمسوه من تغييرات إيجابية على أنفسهم وعلى أفراد أسرهم. أكيد أن الأطفال هم أكثر فئة سعادة بسبب الحجر المنزلي.. لأنهم أخيراً سيجتمعون مع آبائهم.. ليس هناك ما يشغلهم أو يلهيهم عنهم.
أصبحت العائلات أكثر قرباً.. وأكثر حباً لأنها تواجه تلك التحديات في خندق واحد مع بقية أفراد الأسرة وهذا يكسر الحواجز بينهم ويخلق بينهم القوة والترابط واللحمة والتراحم، ويؤكد علماء الاجتماع أنه - من الناحية التاريخية - فإن تحمل المشقة معًا يبني روابط أقوى. لأول مرة، أصبح العديد من الآباء والأطفال - وحتى الأحفاد - تحت سقف واحد على مدار اليوم. وإذا كانت الفترات الماضية من حالات الطوارئ كالمرض والحوادث هي مجرد تجارب مؤقتة، فإن هذا التحدي الجماعي المفروض قد يعمق علاقاتنا الأسرية لسنوات قادمة.
براد ويلكوكس، أستاذ علم الاجتماع في جامعة فرجينيا، يقول: «عندما يواجه المجتمع تحديًا هائلاً أو يكون هناك تفاقم كبير في المعاناة، يوجه الناس أنفسهم بطريقة أقل تركيزًا على الذات وبطريقة أكثر تركيزًا على الأسرة».
هناك حالات إيجابية شهدناها خلال تلك الأزمة فعمرت البيوت بالمساجد العائلية، وهناك من بنى أو جهز الأنشطة المنزلية لأطفاله للقضاء على الملل والفراغ وهذا الأب الذي جهز استقبال العيد على سطح منزله، مظاهر جميلة جداً ما كانت لتحدث بل كنا سنظل نهرول. هذه الأزمة كشفت لنا أن أفراد المجتمع بحاجة للتوجيه في طريقة التعاطي مع أسرهم، فالحياة الأسرية هي ليست روتينًا بل حياة نعيشها بمراحلها نتعلم فيها وننقل عبرها خبراتنا لأطفالنا، العائلة هي شجرة ثابتة تمثل الأمان لأفراد الأسرة تحكي عن الماضي وترسم المستقبل. هي ذاك الركن الهادئ من ضجيج العالم، هي تلك المساحة الخاصة بحدود أفرادها لا يشاركهم فيها أحد يمارسون فيها حريتهم بلا خوف أو تكلف أو زيف يتبادل أفرادها الحب والعناق والضحكات.
فالأسرة ليست مجرد زواج وإنجاب أبناء وبيت يضم الجميع.. بل التعهد بالرعاية والاهتمام لأفرادها والمتعة فيما رزقت والتمتع في تلك النعم في كل لحظات الحياة.
هل استفدنا من تلك الدروس؟ هل سنعيد حساباتنا في حياتنا ومع عائلاتنا وأحبتنا من جديد؟ هل سنخفف ركضنا خلف إشغالنا والإلتفات أكثر إلى أطفالنا وأسرنا؟. الحياة تمضي سريعاً ويمضي معها من نحب دون أن يكون لنا حق استعادتهم من الموت والتمتع معهم بتلك الحياة قبل الرحيل.
فشكرًا كورونا على تلك الدروس.