د. محمد عبدالله العوين
لم أكن أعلم أن الإناث خبيثات شريرات ماكرات مخادعات؛ إلا بعد أن بلغت بي الحاجة إلى اتقاء شر وخز البعوض الذي كل ليلة فذهبت أقرأ في المصادر المختصة عن تكوينه وطبيعته وحياته وموته وتناسله وبيضه وتفقيسه وتغذيته ومكان اختبائه وحالات يقظته وسباته؛ ودخلت بمحركات البحث على عشرات العناوين والصفحات حتى علمت علم اليقين أن البلا فيني أنا وليس هو؛ فهو يعشق كل العشق ويهيم كل الهيام بمن ينتمي دمه إلى فصيلة A غذائه المحبب، ثم يحلي بمن فصيلته B+ وكتب الله أن يكون دمي من هذه الفصيلة؛ فهو يتحلَّى ويتفكَّه بي كل ليلة!
أما المحظوظون فهم أولئك الذين ينتمون إلى فصيلة O فلا يقربهم البتة، ومن الكره ما أسعد أحياناً!
ما كنت أظن إلا أن الإناث رقيقات لطيفات أنيسات جميلات؛ إلا في إناث البعوض؛ فهن معمرات شريرات خائنات مخادعات مخاتلات قاتلات!
الذكر من البعوض يموت خلال أسبوعين بعد أن يؤدي واجبه في التكاثر ثم يغادر الحياة ولم يمس دم بشر ولم يعتد أو يزعج أو يسهر أو ينكّد أو يطرد النوم عن العيون ساعات الليل الطوال!
ما أجمل وأرق وأكرم وألطف وأعدل الذكور وما أقبح وأوحش وأنكد وأرذل وأظلم الإناث!
في كل ليلة أوقد شموع التحدي، وأشهر أسلحة القتال، وأجهز معدات الكر والفر من المضارب الكهربائية الموزعة على كل ركن وزاوية وفناء وغرفة إلى السوائل الكهربائية القاتلة التي تفوح رائحتها في الغرف المغلقة؛ لكي تكون الرائحة السامة أبلغ وأوجع وأدق في اغتيال البعوضة الأنثى العدو، إلى المصابيح الزرقاء المضاءة المتناثرة في كل زاوية؛ ومع كل هذا الاستعداد القتالي الفذ إلا أن العدو لديه من الذكاء الحاد والقدرة على السكون والتخفي ساعات وساعات إلى أن يحين وقت الهجوع إلى المضاجع، وهنا تبدأ عملية الكر والفر، والمناورة بين الذئب والضحية بين الظالم والمظلوم بين القاتل والمقتول بين الماص والممصوص دمه!
تهجع كما أهجع، وتستكين إلى أن أستكين، وتدّعي النوم إلى أن أغمض عيني وأدخل في الغفوة الأولى من عالم الأحلام فتتسلَّل من مخبئها بخفة وخبث وسلاسة مغنية بطنين الفوز بالغنيمة فتغرس خرطومها الدقيق النحيف الطويل الحاد في ما يظهر من تحت اللحاف وتمتص ما تشاء إلى أن تشبع ثم تخدر بلعابها مكان الطعنة الغادرة؛ لئلا أتألم فأستيقظ فأطاردها، حتى إذا هربت وولَّت واختبأت وسكنت اشتعلت النار الملتهبة، حيث غرست خرطومها السام القاتل، ويلي منك ومن عذابك ومطاردتك، أفتح عيني متأملاً في ما حولي لعلي أرى طيفها، أمسك بالمضراب الكهربائي أدور به في الغرفة حتى أصاب بالدوار متلجلجاً متوعداً بالويل والثبور، أدور حتى يبلغ بي اليأس، أفر من الغرفة إلى الصالة، أعود خاسراً، لا نوماً كسبت ولا عدواً انتقمت!
يا لها من معركة بائسة يائسة خاسرة مع عدو غادر ظاهر خفي؛ مع أنثى رقيقة خائنة، تعشق فتقتل، ومن الحب ما قتل.