د. عبدالحق عزوزي
التحمت المركبة «كرو دراغون» التابعة لشركة «سبايس إكس» الأحد الماضي، وعلى متنها الرائدان روبرت بنكن ودوغ هورلي، بمحطة الفضاء الدولية، بعد أن انطلقت السبت في رحلتها المأهولة الأولى. وهذه أول رحلة مأهولة إلى الفضاء تنطلق من الأراضي الأمريكية منذ نحو تسع سنوات.
وحضر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شخصيًّا عملية الإطلاق على بُعد بضعة كيلومترات، وقال: «لا أحد يقوم بذلك مثلنا»، معتبرًا أن إنجازات الولايات المتحدة في الفضاء هي «أحد الأمور الأكثر أهمية التي قمنا بها». وأنا أتابع هذا الالتحام حاولت أن أطلع على المسار التعليمي لصاحب شركة سبايس إكس، الشاب العبقري السيد إيلون رييف ماسك؛ فوجدت أنه مهندس، ومخترع خارج العادة. وُلد في جنوب إفريقيا عام 1971، ثم انتقل للعيش في أمريكا، وأصبح مليونيرًا عندما كان في العشرينيات من عمره حين باع شركته الناشئة Zip2 إلى شركة Compaq للحواسيب، وحقق المزيد من النجاح بتأسيسه شركة إيكس دوت كوم X.com عام 1999، وشركة سبيس إيكس عام 2002، وشركة تيسلا في 2003. تصدر ماسك عناوين الأخبار في عام 2012 حين أطلقت شركة سبيس إيكس صاروخًا فضائيًّا، أرسل أول مركبة تجارية لمحطة الفضاء الدولية. وفي عام 2016 ملأ معرض أعماله بصور المدينة الشمسية سولار سيتي SolarCity، ورسخ وجوده على عرش القادة الصناعيين بعد أن لعب دور المستشار في الأيام الأولى التي تولى فيها الرئيس الأمريكي الإدارة. المهم عندي أنه في سن العاشرة بدأ إيلون بتطوير نفسه تباعًا؛ فشرع بتنمية قدرته على استخدام الحاسوب، وتعلم لغات البرمجة، وقد نجح بالفعل؛ إذ صنع أول برنامج قابل للبيع، وقام بتصميم لعبة سماها بلاستر Blaster.
وفي عام 1989 عندما بلغ السابعة عشرة انتقل إلى كندا لارتياد جامعة كوين Queen، وهربًا من الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الجنوب إفريقي. وفي 1992 غادر كندا ليدرس الفيزياء وإدارة الأعمال في جامعة بنسلفانيا Pennsylvania، وبالفعل حصل على شهادة في الاقتصاد، ثم أكمل دراسته للحصول على درجة بكالوريوس ثانية في الفيزياء. وأنا أتابع مسيرته وجدته أنه يتغاضى عن تعليم أبنائه الصغار في المؤسسات التعليمية الأمريكية؛ لأنها في نظره لا تشجع المهارات، ولا تخلق الإبداع في عقول الأطفال؛ لذا بدأ في رسم خريطة تعليمية خاصة لأبنائه!!!
أقول هذا الكلام لأن الأمم لا يمكن أن تتطور إلا بتشجيع البحث العلمي بكل الطرق الذكية الممكنة، وقبل هذا وذاك يجب غرس فيروس الإبداع والبحث والثقة في نفوس الأطفال والطلاب؛ لذا يجب التفكير بجدية في إنشاء برامج ومشاريع ومعارف متطورة ومحفزة؛ وهو ما قد يشكل نقلة نوعية في مجال خلق أرضية مشتركة للتكوين والإبداع. ولا يخفى على أحد الدور المهم الذي تلعبه الجامعات في تحريك التنمية؛ لأن الجامعات هي أرفع المؤسسات التعليمية؛ إذ يلعب البحث والتطوير الذي تنفذه الجامعات ومؤسسات التعليم العالي دورًا أساسيًّا في منظومة البحث والتطوير في أي بلد من البلدان التي تنشد الرقي والتقدم؛ وهو ما يتطلب تحفيزًا من الجميع، وتعاونًا وثيقًا بين الجامعات والمؤسسات المختلفة للوقوف على قدرات الجامعات العلمية والتقنية من جهة، والتعرف على حاجات مؤسسات المجتمع المختلفة بعامة، والمؤسسات الإنتاجية بخاصة من جهة أخرى. لكن هل الجامعة مكان يتعلم فيه الطلاب طريقة التفكير، أو مكان لاكتساب القدرات لولوج سوق الشغل بعد ذلك؟ إنه السؤال الفلسفي الأساسي الذي يطرح نفسه. وهنا أيضًا على الجامعة أن تفهم أن هناك مسؤولية أخرى على عاتقها، ألا وهي التحفيز على الإبداع..
ويقيني أنه يجب أن تكون المساعدة على ذلك من أحد أهداف الجامعة، وهاتيك الثقافة - للأسف - الشديد هي غائبة في العديد من البلدان العربية، فالثلاثية (جامعة - حكامة - صناعة) هي التي تبني الأمم الغربية، وتقوي صناعاتها، وتسهم في بناء الحاضر والمستقبل.
هذه إذن بعض الأفكار المهمة والهادفة التي يجب أن تقوم عليها الجامعة، كقطب رئيسي وأول في خدمة وبناء وتطوير المجتمع، وهي - كما يمكن أن يرى كل متتبع لبيب - الشروط التي تقوم عليها الجامعات الغربية، التي منها بلورت كل الصناعات الحديثة، ومنها تخرج أصحاب جوائز نوبل والمبدعون وأصحاب الاختراعات المتتالية، وبدونها تبقى الجامعة مؤسسة عديمة النفع، قائمة على التلقي والحفظ واجترار ما سطره الأولون والآخرون.