د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر ورث تراث الأمويين في الأندلس بإرادة الله، ثم بفضل الظروف، وحكمته ودهائه؛ فبعد أن توفي الحكم المستنصر، خاتمة عقد الأمويين الزاهية، وحصيلة ما أنتجته الأجيال السابقة، آخر ثمار ما زرعه رجال الأندلس، وألذها طعمًا، وأجملها منظرًا، وأجودها ثمرة، تم قطافها في ذلك العهد بعد أن أينعت؛ لتسفر عن كم هائل من الكتب لجعلها قاعدة للأجيال اللاحقة.
يبدو أن الأمور لم تسر كما كان يريد الحكم؛ فبعد وفاته لم يكن له سوى صبي لم يبلغ الحلم؛ إذ كان عمره اثني عشر ربيعًا، وأمه صبح بافارية الأصل كانت وصية على الخليفة الجديد، وأضحى الأمر في يد ثلاثة أقطاب: (الصقالبة، قادة القصر وصبح البافارية)، والحاجب جعفر بن عثمان المصفحي، وهو أديب، وشاعر، وجليس، وأنيس، ومقرب من الحكم المستنصر.
الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر كان وقت وفاة الخليفة الحكم مديرًا للشرطة، وله علاقة خاصة بصبح البافارية زوجة الخليفة الحكم المستنصر، ووالدة الخليفة الجديد هشام المؤيد. وقد أقنع صبح البافارية بأن الحاجب المصفحي قد جمع مالاً لا يستحقه، واقترح عليها السماح له بالقبض على المصفحي، وإيداعه السجن. وكانت غايته الوصول إلى السلطة؛ فكان له ما أراد، وأودع الوزير المصفحي السجن «المطبق» فقال في سجنه:
صبرت على الأيام لما تولت
وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
فوا عجبا للقلب كيف اعترافه
وللنفس بعد العز كيف استذلت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن طمعت تاقت وإلا تسلت
وبعد أن انتهى من أمر الوزير المصفحي التفت إلى من يرى فيه النباهة من بني مروان، مثل الطليق المرواني، أو زعماء القبائل الأخرى، وحجر على الخليفة هشام المؤيد، وأمه، وكان يصدر الأوامر باسمهم دون أن يكون لهم علم بها. بعد أن صفا له الجو أمر بجمع الكتب التي كانت في مكتبة قرطبة العظيمة، كما أمر باستخلاص الكتب المتعلقة بالفقه والدين والأدب، وتلك ذات الصلة بالطب، فأبقاها، وأمر بأن يحرق ما سواها من تلك الكنوز الهائلة، ولاسيما تلك المتعلقة بعلم المنطق والفلسفة واللاهوت، والتنجيم، وكتب أرسطو طاليس وأفلاطون، لكن بعضًا منها قد تسرب إلى أيدي الناس؛ فاشتروها بأبخس الأثمان، وكانت محرقة كبرى لأعظم كنز تركه الخليفة الحكم المستنصر. وحتى نكون منصفين، فإن بعضًا من المؤرخين المعاصرين له، والمتأخرين، بالغوا في ذلك، ونعتوه بشيء قد لا يكون فعله؛ لأنه كان شديد المراس في الحروب ضد أعدائه المتربصين بالدولة الإسلامية الأندلسية من القشتاليين، والأرجوانيين، وغيرهم؛ فقد دخل أكثر من أربع وخمسين معركة معهم، وغزا مدنهم وقراهم، ولم يهزم قط في أي معركة؛ لهذا فإن كثيرًا من المؤرخين في الغرب ساخطون عليه، وكانت مشكلته أنه لا يحتفظ بالأرض التي يهزم فيها أعداءه، وإنما يأخذ الغنائم والسبايا، ويعود مرة أخرى. ومن كثرة السبايا التي جلبها المنصور أصبح الرجل من سكان قرطبة يبحث عن زوج لابنته الحرة، ويعطيه مالاً على ذلك، فلا يجد إلا القليل منهم؛ وذلك لكثرة الجواري الحسان، وقلة قيمتهن، ومؤنتهن.
وهناك من يقول، ولاسيما من بعض المؤرخين غير العرب، إن الحاجب المنصور قد أحرق الكتب ذات العلاقة بالعلوم، وخصوصًا المتعلقة بعلم المنطق، تقربًا منه للعامة الذين يرون أنها مخالفة للدين. ولا أظن أنه قام بالإحراق لهذه الغاية؛ فقد قبض على السلطة، وتخلص ممن يرى فيهم السداد، ولم يعد بحاجة إلى مداراة الدهماء، لكنه ببيئته الثقافية والبيئية، وطبيعته التي جُبل عليها، رجل حرب، يمقت الجدل وعلم المنطق، والفلسفة التي يرى أنه لا طائل منها؛ ولهذا فقد جنّد وقته وجهده ونظرته المستقبلية لمقارعة الخصوم.
ولا أعتقد أن هناك بأسًا في جمع المسارين لو أراد واحتفظ بإرث عظيم، تمثل في مكتبة تفوح منها روائح عطور الأدب، وندى الفلسفة، وعلم المنطق، أو علم الأوائل كما يحلو للبعض تسميته، وما أضافه المسلمون والنصارى واليهود من علوم تتعلق بمناحي الحياة، بما فيها علم المنطق واللاهوت، التي كانت منبع العلوم التي استفاد منها الأوروبيون في نهضتهم التي تلت العصور الوسطى، أو قرون الظلام كما تسمى.
ما تم إحراقه من كتب عبر التاريخ لدى العرب، ولدى غيرهم، وبأيديهم، وأيدي الغزاة، شيء محزن حقًّا. ولا بد أن هناك من الباحثين من تتبَّع تلك الممارسات الإنسانية الشائنة، وأشبعها بحثًا وتحليلاً. ويكفي ما شهدته مكتبة بغداد من دمار على يد المغول، حتى أصبح لون نهر دجلة أسود من الحبر الذي كُتبت به، وقُذف بها في النهر، ومع هذا فقد بقي ما يشهد على حضارات عظيمة عاشها العرب في المشرق والمغرب، وأضافوا للإنسانية إضافة في مسيرة العلم الطويلة. وقد نال فيما بعد بعض أبناء الأندلس شيئًا من بقايا تلك العلوم؛ ليظهر لنا علماء مثل ابن رشد، ابن زهر، ابن الطفيل وابن العربي.. وغيرهم.