د عبدالله بن أحمد الفيفي
أما وقد «انتهى التاريخ ووُلِدَ الإنسان الأخير»، حسب هرطقات (يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما Yoshihiro Francis Fukuyama)، ولم تبقَ منه إلَّا المعركة الفاصلة في «صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي»، كما فاضت به عبقريَّة (صموئيل هانتِنقتن Samuel Phillips Huntington، -2008)، وهي «أُمُّ المعارك» الماحقة بين الغرب والشرق- إن باسم الصليبيَّة المعاصرة، التي بشَّر به (جورج دبليو بوش)، أو باسم العِلمانيَّة والحُرِّيَّة الفرنساويَّة، مثلًا، التي لم تَعُد تتَّسع بما رحُبت حتى لنِقاب سيِّدة أفريقيَّة- فقد بات من المعلوم من التاريخ، المنتهي الصلاحيَّة، بالضرورة أنَّ دُوَلًا، وسياسات، وثقافات، ظلَّت تعيش، وتهيش، على شبح عدوٍّ مفترَض، فإنْ لم تجده في الواقع صنَّعته بأصابع عناكبها الاستخباراتيَّة!
- قال صديقي اللَّدود (سيف بن ذي قار):
تَعَلَّمْ بِأَنَّ الحَيَّ بَكرَ بِنَ وائِلٍ هُمُ العِزُّ، لا يَكذِبْكَ عَن ذاكَ كاذِبُ!
لا سبب وراء بعض أزمات الدُّوَل الأوربيَّة، تحديدًا، لولا تاريخ تلك البلدان العريق في التعصُّب، إلى درجة العنصريَّة، مع التخلُّف القِيمي، الأصيل في مستنقعاتها الإديولوجيَّة.
- أمَّا أنت، ما شاء الله، أيُّها الإنسانيُّ، المستنير، الحنَّان!
- دعك منِّي، «فالظُّلم من شِيَم النفوس»، كما قال عمُّك (ابن الحُسين). لكن لا تنس: الآريَّة، والشوفينيَّة، والنازيَّة، وانبعاثاتها في السنين الأخيرة. ومَن ذا ينسَى هنا أنَّ (أوربا) في جذورها تنحدَّر عن قبليَّات متوحِّشة أشد التوحُّش، ولا ينبئك مثل (السفير أحمد بن فضلان، -بعد 310هـ= 922م)، في رحلاته العبَّاسيَّة القديمة. فأبدعتْ حديثًا أبشعَ ألوان الفكر العنصري، والقمع العدواني، والاستبداد الاستعماري، التي عرفتها البشريَّة في تاريخها كلِّه، وصنعتْ أفتكَ أدوات القتل والتنكيل، بالإنسان والحيوان، وسمَّمتْ الطبيعة، وعولمتْ الأوبئة، ونشرتْ نفاياتها المميتة في الكون أجمع! فغير مستغربٍ، والحالة تلك، أن تَجِدَ لديها التحجُّر باسم التحرُّر، واحتقار الإنسان، والثقافات، والأديان، باسم حماية المجتمع العلماني. وهنا لا يصبح للعلمانيَّة إلَّا وجهٌ واحدٌ، «أقشَر»، معناه: مكافحة المعتقدات المختلفة، ورفض التنوُّع الثقافي، والتعدُّد القِيمي، وفرض نمطٍ واحد، وزيٍّ واحد، ونسخةٍ واحدةٍ من الأعراف الاجتماعيَّة.
- وبعد؟ ماذا تريد أن تقول؟
- إنَّه دِينٌ أُصوليٌّ جديد، يتَّبع الآليَّات الفكريَّة والسياسيَّة والقانونيَّة، التي طالما انتقدها الغرب في المجتمعات الشرقيَّة، وينتقدها. فيما العقلانيَّة والعلمانيَّة- لو كانا على معنييهما الأصيلين- هما مع حُرِّيَّة الإنسان، ومع الحُكم على عمله لا على لباسه وشكله. وهذا التناقض هو ما يُدرِكه عقلاء الغرب، وذوو الوعي الحضاري، والنزوع الإنسانيِّ فيه، غير أنَّ السُّلطة الإديولوجيَّة المهيمنة هي أقوى من أصواتهم.
- أوَّلًا، عمُّك (ابن الحُسين المتنبِّي) إنَّما جاء يُرَدِّد القول الجاهلي (للنجاشي الحارثي) الإسلامي:
قَبِيِّلَةٌ لا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ولا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
فالظُّلم من شِيَم النفوس الحيوانيَّة المفترسة، وليس من شِيَم النفوس الإنسانيَّة السَّويَّة. بل إنَّه ليس من شِيَم النفوس الحيوانيَّة المفترسة، لكنه قد يبدو كذلك، لضرورات حياة تلك الحيوانات الطبيعيَّة، ولو استغنت، ما افترست. بل الصحيح أنَّ الرحمة والعدل من شِيَم النفوس أصلًا!
- مثاليَّةٌ طوباويَّة! أضف إلى جعبتك البريئة أنَّ المحاولات لإلهاء المجتمعات ببُعبع الأعداء هو ديدنٌ قديم، لصرف الأنظار عن إشكالات سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة طاحنة؛ بافتعال ألعاب ناريَّة، وخوض الجدليَّات الطويلة، في مجالس النُّوَّاب، والإعلام. وربما تمخَّض الجبل عن سَنِّ قوانين مبتكرة، كمنع تغطية الوجوه، مثلًا، التي أصبحت قضيَّة القضايا هناك.
- كلُّ حسنات الغرب صارت لديك سيئات لهذا السبب؟!
- لا، لكن هذا نموذج من نماذج الاختبار التي يسقطون فيها كلَّ عام.
- كيف يسقطون فيها؟
- سَجِّل عندك، على سبيل النموذج! يسعى الاتِّحاد الأوربي منذ حينٍ إلى تقليص حُرِّيَّات دُوَله في الاستقلال بقراراتها الاجتماعيَّة، كي ينحدر الجميع إلى الدرك الأسفل من التشدُّد وضيق الأفق، وكي تنتقل العدوَى، طوعًا أو كرهًا، إلى بعض الشرق المستهدَف بمثل تلك القوانين.. والشرق لا ينقصه استيراد التخلُّف، أو التدخل في حُرِّيَّات الناس، واتباع السيِّد الأبيض، حذوَ القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخل وكرَ سنجابٍ لدخله!
- دع الخلق للخالق!
- ألم يقل الخالق: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة»؟
- وكلٌّ يدعي تلك الخلافة، حتى (أبو بكر البغدادي)!
- سيادة أيِّ بلدٍ ليست مطلَقة للتحكُّم في حياة الناس، بل ينبغي أن تقف سيادة أيِّ بلدٍ لدَى سيادة أيِّ فرد، ما دامت سيادة الفرد الشخصيَّة لا تسبِّب ضررًا للآخَرين. ولا علاقة للأمر بمواضعات رسميَّة، فالشارع للجميع، وهو يَعُجُّ بالأشكال والأزياء، لولا الحِقد على الفكرة والثقافة التي تعبِّر عن هويَّةٍ مختلفة. بَيْدَ أنَّ بعض الاختلاف يُشعِل جنون البقر في الرؤوس، لما يوقظه من هستيريا الكراهية لثقافة الآخَر، ولا سيما حينما يكون الآخَر عدوًّا تاريخيًّا.
- والزُّبدة؟
- ذلك هو تشخيص الأزمة النفسيَّة الشُّعوبيَّة الجديدة، ببساطة، مهما تحذلق المتحذلقون! وهم يصرِّحون بذلك، على الرغم من لتِّهم وعجنهم الطويل، وبربرتهم لتبرير بربريَّتهم، حينما يعبِّرون، مثلًا، عن أنَّ الإشكال ليس في الزِّيِّ، من حيث هو، ولكن في الفِكر الذي وراءه. فإذن، القضيَّة ليست أَمنيَّة، كما يَلِذُّ الاحتجاج لمن لا يجد احتجاجًا، لكنَّها قضيَّة فكرٍ آخَر وإديولوجيا مضادَّة. وما أشبه الليلة بما قبل البارحة!