أ.د.محمد بن حسن الزير
كان الإمام (فيصل بن تركي) الذي ولد في الدرعية عام 1213هـ أحد أمراء آل سعود الذين أبلوا بلاء حسنا في الدفاع عن الدرعية، وهو فتى في مقتبل العمر، ضد الحملة العالمية التي قادها (إبراهيم باشا) وانتهت باستسلام (الإمام عبد الله بن سعود) وانتهاء الدولة السعودية الأولى عام 1233هـ، كما كان ضمن من قدر الله عليهم الأسر؛ ولكنه، بعد عشر سنوات في الأسر، تمكن بعون من الله من الفكاك من أسره والعودة إلى وطنه، خلال جهاد أبيه لتأسيس الدولة (الإمام تركي بن عبد الله) وهو في الرياض عام 1243هـ، وكان الأمر قد استقر له بعد أن استرد الرياض وجعلها عاصمة للدولة، وكان يوم عودة فيصل وهو الابن البكر لأبيه، يوم فرح وتفاؤل؛ يقول ابن بشر (2/64):» فلما وصل إلى أبيه استبشر به أعظم بشرى وعدَّها من ربه نعمة كبرى، فترقَّت به الأحوال، وبلغ غاية الآمال».
وقد شدَّ اللهُ به أزر والده في جهده المتواصل من أجل إرساء قواعد الدولة مرة أخرى وتثبيت حكمها، وبسط نفوذها على الأنحاء والأقاليم، في مرحلة مهمة وحساسة، وصار له أثره البارز في معاونة والده الإمام في تحمل أعباء تلك المرحلة المهمة من مراحل تأسيس الدولة وكان فيها ركنا عظيما؛ وبخاصة أن الدولة مازالت تواجه المصاعب والمشكلات هنا وهناك. وأصبح تحت أمر أبيه، يسير معه حين يسير، أو يكلفه بالمهمات الجليلة؛ ومنها قيادته لجيوش أبيه، وتحمل عبء مسؤوليتها؛ مما منحه الخبرة والدراية، وممارسة معترك الحكم والقيادة في مجالي القيادة السياسية والإدارية، والقيادة العسكرية الميدانية؛ فقد كان والده يصحبه معه في مسيره وغزواته، كما كان يكلفه بقيادة الجيش ويسيره في المهمات العسكرية؛ لتأديب العصاة، ومانعي الزكاة وأهل التمرد والمخالفين من أهل البلدان والعربان، يقول (أبو عليه؛ تاريخ الدولة السعودية الثانية ص 34-35):» ولمع تاريخ هذا الحاكم منذ اللحظة الأولى التي خرج فيها من سجنه في مصر؛ فلما وصل نجد أصبح الساعد الأيمن لأبيه تركي، وقاد الجيوش في الغزو، وشارك في إعداد وتنظيم ورسم الخطط لتسيير القوات الغازية، كما عاون والده في الأمور السياسية والإدارية، وناب عنه في حالات غيابه عن العاصمة، فيكون بذلك قد استفاد خبرة طويلة في الشؤون العسكرية والسياسية والإدارية».
وقد روى ابن بشر كثيرا من غزوات فيصل سواء مع أبيه كمثل جولتهم سنة 1244هـ جهة الوشم وسدير والمجمعة أو حين أمر عليه أبوه، في العام نفسه، أن يركب في نحو مائتي مطية لتأديب بعض مانعي الزكاة في نواحي الدهناء (ابن بشر 2/33) وفي سنة 1245هـ أمر الإمام تركي الجميع بالنفير مع ابنه فيصل لمواجهة بني خالد وأميرهم ماجد بن عريعر شيخ الأحساء والقطيف الذين أعدوا جموعهم للمحاربة، والتقى الجمعان في قتال شديد؛ «فاتفق أنه مات ماجد بن عريعر آل حميد بمرض في مناخهم ذلك في أول رمضان فاستبشر بذلك فيصل ومن معه فكتب إلى أبيه يبشره بذلك ويطلب منه المدد؛ فلما جاء الخبر إلى تركي خرج من الرياض .. فتوجه تركي بتلك الجنود ووصل إلى ابنه فيصل في العشر الأواخر من رمضان..» (تحفة المشتاق ص176) وقد انتهى لقاء الفريقين بانتصار جيش الإمام. وانظر (ابن بشر2/35-36). وفي صفر سنة1247هـ سار فيصل بجيشه إلى عالية نجد وحصل قتال لم يظفر منه بطائل، فأذن فيصل لمن معه بأن يرجعوا إلى أوطانهم (انظر ابن بشر2/39)، وفي سنة 1248هـ أمر الإمام تركي على ابنه في غزاة نحو بعض العصاة في الدهناء؛ «فسبقه النذير إليهم فهربوا فرجع ونزل بلد المجمعة وأقام فيها أياما، وجهز جيشا إلى عمان..» (ابن بشر 2/42).
وفي ذي القعدة سنة 1249هـ حين كان فيصل في غزوة بأمر أبيه نحو القطيف «وذلك أنه بلغه أن أهل جزيرة العماير قطعوا السبل عن أهل القطيف، وأن بينهم وبين عبد الله بن غانم رئيس القطيف محاربات..» (ابن بشر2/48)، وحينما كان في مهمته تلك وهو في القطيف بلغه خبر مقتل الإمام، فتوجه نحو الأحساء، وفشا الخبر بين الناس؛ يروي (ابن بشر 2/-50-51): « وكان معه رؤساء المسلمين وأعيانهم منهم؛ الأمير عبد الله بن علي بن رشيد..، وكان ذا رأي وشجاعة، وعبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن حسن رئيس بريدة، وتركي الهزاني رئيس الحريق، وحمد بن يحي بن غيهب أمير الوشم وغيرهم ورجال من رؤساء العربان، فأرسل إليهم فيصل وأحضرهم عنده ومعهم عمر بن عفيصان فأخبرهم بالأمر وأنه لابد من الأخذ بالثأر؛ فلما سمعوا كلامه أولئك الجماعة قاموا كلهم وبايعوه على السمع والطاعة فكانت بإذن الله كلمة مجتمعة على المسير والحرب معا.. ثم رحل من الأحساء بجنوده ورفع راياته وبنوده وأعمى الله أخباره عن الباغين فلم يعلموا صدوره ولا وروده..». وقد تمكن، بعد معركة مثيرة من القضاء على رؤوس الفتنة، والقصاص من قتلة الإمام، وتمكن من الرياض، وبدأت ولاية حكمه الأولى، وأذن لجنوده بالعودة إلى بلدانهم.
وانطلق الإمام فيصل نحو تثبيت الدولة وتوحيد أطرافها على أسسها الدينية والفكرية والسياسية والعدلية الأولى القائمة على الشريعة الإسلامية في نفوس ولاتها وفي نفوس الرعية، واتضح ذلك من رسالته الأولى إلى رعيته، وما تبعها من رسائل أخرى، تبين منهجية الدولة ومنطلقاتها وأهدافها التي هي قاسم مشترك بين الراعي والرعية؛ وبخاصة فيما يتعلق ببث روح الدين والإخلاص لله في نفوس الناس والتمسك باتباع هديه والتعاون، من أجل الحق والمعروف، وردع الباطل والمنكر، من قبل الجميع، وأن يكونوا صفا واحدا معتصمين بحبل الله جميعا غير متفرقين. وأحضر العلماء عنده، وجمع رؤساء القبائل وأمراء البلدان، والتقى بالجميع في مؤتمر عام «بحث فيه أحوال الأقاليم وشؤون القضاء، وانفض بعد مضي شهر من اجتماعه، وانتهى بإعلان الجميع الطاعة للإمام الجديد» (أبو علية؛ تاريخ.. ص41) وانظر (ابن بشر2/65-67).
وفي سنة 1251هـ أسند الإمام فيصل إمارة حائل لعبد الله بن علي بن رشيد، وبعث (زويد) إلى القطيف، وقدم عليه في الرياض ابن أمير القطيف (ابن غانم) وأمير سيهات وبايعوه على السمع والطاعة، وقدم (دوسري بن عبد الوهاب أبو نقطة) من عند (محمد علي باشا) برسالة إلى الإمام فيصل، وفيها سار الإمام إلى روضة التنهات لما سمعه من امتناع بعضهم عن أداء الزكاة؛ ولكن وفد إليه فيها رؤساؤهم، فأرسل معهم عمال قبض الزكاة، وقدم عليه فيها أخوه (جلوي) من سفارته إلى مكة، كما وفد عليه أيضا أبناء عبد الله بن خليفة، وبعث من يقبض زكاة القصيم وغيرهم من عرب عنزة، كما وجه الشيخ (عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين) ليكون قاضيا ومدرسا لطلبة العلم في القصيم؛ بناء على طلبهم. وللحديث صلة.