سلمان بن محمد العُمري
«الحش» في مفهوم العوام مقابلة لمضمون آفة الغيبة والنميمة -أعاذنا الله وإياكم منها-، ولكن هذه اللفظة الشعبية الدارجة يشيع استخدامها في بلادنا وبعض بلدان الخليج ولا أعلم ما مصدرها، وليس هذا مقصد المقالة بقدر ما هو الحديث عن هذا المرض الاجتماعي الذي ينتشر في مجالسنا كالفيروس منطلقاً من دوافع عدة أولها الحسد والضغينة والكراهية ضد المتحدث عنه، وأخرى كالتشفي أو الغضب أو موافقة للجلساء ومجاملتهم، وقد يكون بقصد التزلف عند صاحب المجلس ومن معه بقصد مفاكهتهم أو إرضائهم وهو ما أعنيه في عنوان المقالة حيث إن بعضهم جعل من الغيبة أداة للوصول لمراميه وأهدافه بصورة ممقوتة وبغيضة.
ومع شيوع ظاهرة الغيبة وانتشارها فقد لا تستكثر من المحدث أو بعض المستمعين له هذا الخطأ في حق أنفسهم وحق المغتاب، ولكن المصيبة فيمن تحسب أنهم من الأخيار أو من يظن فيهم أنهم من أهل العلم والفضل وتراهم لا ينكرون على المتحدث بل ولربما كانت أصوات قهقهتهم وهز رؤوسهم تسابق من في المجلس إن لم يؤيدوا المتحدث ويثنوا على غيبته بذكر مثالب إضافية، وهذا لا يتوقف على المجالس العامة أو المكاتب ودوائر العمل بل يشمل ما يقع في مجموعات التواصل وفي المراسلات الخاصة من رسائل التهكم والسخرية على الأفراد والمجاميع والبلدان.
ومن الطرائف المضحكة والمبكية في آن واحد أن مجلساً ضم مجموعة من الأصحاب واستلموا في عرض أحد الغائبين ذماً وقدحاً ولم ينكر على المتحدث من في المجلس، وحينما شرب أحدهم كأس الشاي بشماله تسارع الحضور في تنبيهه للشرب باليمين ولاشك في مخالفته الأخيرة، ولكن الأولى أولى بالتنبيه كيف لا وقد جاء التحريم والتوصيف الشنيع عنها في كتاب الله الكريم وهي من الكبائر قال تعالى: وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ، فجعل من يغتب أخاه كمن يأكل لحمه ميتاً، والأحاديث النبوية في هذا الباب كثيرة جداً، والغيبة كما هو معلوم أن تذكر أخاك بما يكره فإن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته أي قلت فيه ما لم يفعل وكلتا الحالتين من المحرمات الكبيرة، ولكنها أصبحت عند البعض «فاكهة المجالس»، والحق أن لا تسمى بهذا الاسم فهي «آفة المجالس».
وقد يتساهل البعض بعد أن كف لسانه عن الخلق في البقاء والاستماع وعدم الإنكار، ويقول لم أتحدث معهم، ولكن مشاركته إياهم في المجلس الذي يتكرر فيه الإساءة للناس دون تنبيه المتحدثين فيه إثم عليه ولربما كان جوابه أي الساكت عن الحق أنه لا يريد أن يستثقله الحضور حينما يجرى منه التنبيه والإنكار على المغتاب، وكأنه ارتضى بسخط الله على سخط الناس والعياذ بالله وما علم هو والمتحدث أنهما لو سلم الناس من ألسنتهم لكان خيراً لهم أنفسهم، وصدق الشاعر حين قال بما يوافق هذا الأمر:
وسمعك صن عن سماع القبيح
كصون اللسان عن النطق به
وأعود لأقول أنك تستكثر على من بلغ في السن عتيا، ومن بلغ في العلم والقدر أن يجاري السفهاء في غيبتهم ولا يحرك ساكناً وهم الأولى باجتناب ذلك فعجباً لمن كان كبيراً في سنة أو من ظاهره الورع أن تجده يتجنب أغلب المحظورات ولكنه عالق في الغيبة أو النميمة أو البهتان، والأدهى حينما يكون هو صاحب المجلس والمقام وله الكلمة والفصل في هذا المجلس ولكنه يسمع الغيبة ولا يسد أذنيه، ولا يسكت المتحدث بل تراه يستحث ضعاف النفس، والذمة على أن يعتدوا على أعراض الناس وسط ضحكات وقهقهات ممزوجة وعفنة، كيف لا وهي بأكل لحم الميت، والحديث عن الناس يكون في مواضع قليلة ولأسباب محددة عرفها أهل العلم كالتظلم أو إنكار منكر محدد في مكان وزمان محدد أو كالفاسق والمتهتك المجاهر بالفسوق والمعصية، ولكن التورع عن هذا الوباء والذي فشي بيننا لا زال مستشرياً ولم يسلم منه الصغير ولا الكبير، والعالم والجاهل، وأقبح أحواله أن تكون الغيبة سلماً لمنصب أو جاه أو لمال، والتقرب إلى صاحب الشأن بالتعدي على أعراض الناس وشعار صاحبه «حش.. تعش».
وصدق قول الشاعر:
قبيح من الإنسان ينسى عيوبه
ويذكر عيباً في أخيه قد اختفى
فلو كان ذا عقل لما عاب غيره
وفيه عيوب لو رآها قد اكتفى