د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** أخفق في أول اختبار له مع الرقابة عند التحاقه بالعمل الصحفيِّ حين أُوكل إليه الإشرافُ على صفحات «أدب وثقافة» الجزيرة مما فصَّله صاحبكم في كتابه: «سيرة كرسي ثقافي 2015م» يجتزئ منه لقطةً وحيدةً؛ فلم يكن يصادر رأي أيِّ كاتب مهما شطّ أو اشتطَّ مكتفيًا بتعليقٍ موجز لإبداء الصورة المغايرة أو الرأي الرسمي، ولم تعبر هذه التهميشات إلى القراء، بل لعلها عجّلت بتعيين رقيب خارجي تُحال إليه الصفحات قبل وصولها إلى رئيس التحرير، وهما اثنان من أساتذتنا انتقلا إلى رحمة الله، وكان التعاملُ صعبًا على الرغم من فهمهما وتفهمهما وقرب صاحبكم الشعوري منهما، وبدا أن وظيفة الرقيب تفرض على حاملها أن يكون متوجسًا، متحسسًا، مؤثرًا السلامة، وقد تعبا وتعبنا، غير أننا -في مرحلة تاليةٍ- أقنعنا رياسة التحرير برقيبٍ من داخل التحرير الثقافي عمل ولا يزال حتى اليوم مستشارًا أمينًا فسارت الأمور رخاءً، وبدا الانسجامُ تامًا بين إدارة التحرير ومستشارها، ومع الكُتّاب والكاتبات.
** وإذن؛ فهو الدرس الأول الذي يتلقاه محررٌ وكاتبٌ ومسؤولٌ إعلاميٌ؛ فالفضاءُ ليس مفتوحًا كما يُظنّ، وللنشر والبث -في صوره المقروءة والمسموعة والمرئية- قواعدُ تمتد وتستطيل في بيئة وترتد وتنكمش في بيئةٍ أخرى، وفي عالم الكلمة تلتبسُ العلاقةُ بين التحرير والرقابة فلا يلتقيان معنىً وإن امتزجا مبنىً، وقد يجتمعان في شخصٍ يمارس الفعل الرقابيَّ مؤمنًا به أو متبرمًا منه، كما أن ما يُمنع في زمن يباح في غيره، والضدُّ متيقنٌ كذلك.
** يبقى الرقيبُ الداخلي -مهما صعب التعامل معه- أيسرَ من الرقيب الخارجيّ؛ سواءٌ أكان قارئًا عاديًا أم موظفُا رسميًا، وفي «سيرة الكرسي» نماذج من هذه المعاناة، وكذا في كتاب الأستاذ محمد القشعمي عن «الفكر والرقيب»، والأهمُّ هنا عرضُ تجربةٍ إيجابيةٍ قريبة مع رقيب الكتب؛ فقد كفته دورُ النشر سابقًا همَّ فسح بعض كتبه، مثلما كان له صديقان تقاعدا (عبدالرحمن الخطيب وعبدالله الخرجي بارك الله عمريهما وأعمالهما) وفَّرا عليه مشقة إجراءات كتبه الأخرى جيئةً وذهابًا.
** في كتابه الجديد (الألفيَّةُ لا الأبجديَّة) -عن والده رحمه الله- تعاملَ مباشرةً مع نظام فسح المطبوعات الآلي فوجده ميسرًا، ولا غرابة كما لا جديد، ثم وجد من الرقيب الذي لا يعرفه لغةً راقيةً في الملاحظات؛ فقد صحح له خطأً علميًا (أساسُه خطأ طباعي لو لم يلتفت إليه لصدر في الكتاب)، كما طلب حذف بضعة أسطرٍ تستحق الحذف، ولو عرفه لامتنَّ له وهنّأه على دقته، ولعل في هذا رسالةً إلى بعض من يظنون حروفهم مقدسةً لا تُبدّل ولا تُعدّل كي يَربعُوا على أنفسِهم، وإذ نَفَّذ ما طُلب منه فقد أُذن له بالطبع؛ فشكرًا لوكالة الإعلام الداخليّ، ودعاءً لها ولمسؤوليها ومراجعيها بمزيد التيسير؛ فعالم الرقابة والرقباء يوشك على الأفول.
** الوعيُ تغيير.