تحرص الجهات الرسمية والمؤسسات الثقافية في جميع الدّول على تمييز هويتها وتحديد ثقافتها، وإبراز شخصيتها الفكرية. وقد ازداد هذا التوجّه الفكري خاصة في عهد التقنية الحديث، وسقوط حواجز الجغرافيا، وترابط المصالح والثقافات العالمية والعلاقات الدولية، حتى لقد أطلق بعض الخبراء على هذا القرن قرن الهويات والقوميات..
وهنا يبرز إشكال الثقافة والهويّة لدى العرب كأحد أهمّ الإشكالاتِ المعاصرة، والتي لم تكن تحدثُ من قبل لأسبابٍ عديدةٍ. ويمكن تلخيص الإشكال في كل مجتمعٍ يقف ثقافياً بين ثلاثة أبعاد: البعدُ الأول ثقافتُه المحلية المرتبطةُ بعاداته ومنتجاته الفكرية المحلية من أدب محلي وصناعات وإبداعات محلية ولغة أو لهجة محلية....والبعد الثاني تاريخُه ومنتجاتهُ الفكرية الإبداعية والإنسانية كالآداب والثقافة والتراث على مدى القرون الماضية، وهو جهد المجتمعات المنتمية كلها عبر أجيالٍ بل قرونٍ ...والُبعد الثالث مرتبطٌ بالثقافة العالميةِ التي تعبر الحدود بين الثقافات، ولا تعرف وطناً محدداً تأوي إليه، وتسكن في مجتمعه. وهذا مرتبطٌ بالعولمة أكثر شيء... وبين الأبعاد الثلاثة تحتار بعض العقول وتضيع بعض الهويات !
والإشكال القائم هو: هل الثقافةُ المحلية هي المحددةُ للهوية الثقافية لدينا مثلاً، أم الانتماء الفكري لتراثنا العربي الإسلامي ومنتجاته هو المحدد الأعلى لهذه الهوية الثقافية ؟! وما مدى قبولنا للثقافة العالمية ماذا نأخذ وماذا ندع ؟
لاشكّ أن الثقافة المحليّة مهمةٌ؛ لأنها الثقافة المعيشة والمنقولةُ نقلاً مباشراً عبر المعايشة من جيلٍ إلى آخر، ولكنها قد لا تحدّد الهوية الثقافية، بل يحددها ماهو أعلى سقفاً من ذلك! وليس من حسن التخطيط الثقافي أن تعكف دولةٌ ما على ثقافتها المحلية فقط، وتهمل مكوناتها الفكرية المرتبطة بالبعد الثاني، حتى إن كانت خارج حدودها الجغرافية السياسية في أيّ مكان، خصوصاً أن بعض الدول الكبيرة في العالم لديها ثقافات متنوعة ومنتجات فكرية مختلفة، ولغات عديدة أحياناً، وثقافات محلية مرتبطة بالعادات أو التقاليد والفنون مما يجعل اختيار إحداها وترك الأخرى عملاً مضراً ليس بالبلاد نفسها فقط، بل بالتراث الإنساني... ومصر والهند نموذجان جيدان لذلك فمصر بلاد تعاقب عليها ثقافات مصرية قديمة ثم يونانية ثم رومانية ثم إسلامية عربية وفي كل مرحلة هناك تراث أدبي وفنون وآثار وفلسفات وأفكار ودين ...والهند مثلها بل أكثر في هذا المجال. ومحاولة توحيد هذا التنوع والثراء وإلغاء بعضه غير جيدة؛ لأنها خسارة لهذه الدولة نفسها. وقد لا تدرك قيمة وحجم الخسارة إلا بعد جيل أو جيلين أو ثلاثة، وربما صعب استعادتها هنا.
هذه القراءة الفكرية للهويّة وارتباطها بالثقافة على جانب كبيرٍ من الأهمية لاتصالها بالمادة الثقافية التي نقدّمها عن أنفسنا، ولاتصالها بالمناهج التربوية التي تقرها الدول في مدارسها لأبنائها، وبفلسفة الوطن كله وهويّته ...فقد ترى بعض الدول العربية مثلاً تعكف على تراثها الشعبي المحلي، وتنسى امتدادها التاريخي مع أنه هو الذي يمنح الأرضية الصلبة لهويتها الثابتة والحقيقية، وقد تنسى كذلك هويتها وتراثها القريب، وتتمسك بتراثها الموغل في القدم بما فيه، وهذا إشكال آخر يؤدي إلى ازدواجية الشخصية الثقافية.
وفي بلادنا الكريمة يتخذ هذا البعد جانباً أخف من بعض البلدان فلدينا لغة واحدة ودين واحد، ونسيج اجتماعي واحد. أما العادات المحلية كالأزياء والأطعمة والمظاهر الثقافية المحلية فهذه ينبغي الاهتمام بها، لأنها تزيد البلاد جمالاً وثراءً، وليست هوية مستقلة فالهوية تأتي من الثقافة بعمقها الثاني وهو المرتبط بالماضي والحاضر والدين والتراث وليست من إبداعاتها الفنية ...
ومن إشكاليات العولمة المقلقة أنها قد تلغي الثقافات المحلية والخصوصية الثقافية وهذه خسارةٌ كبيرة. وفي نموذجنا نحن لدينا تراث محلي ومنتجات ثقافية محلية، وفكرنا العربي الإسلامي هو المحدد الأكبر لهويتنا؛ فكل ما أنتجه هذا التراث على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً هو رصيد يجب أن ننظر إليه على أنه امتداد لثقافتنا فآثار القيروان لنا بها رحم ماسة، والموشح الأندلسي ربيب ثقافتنا، وكذلك العقال النجدي وقصور الطين ورواشين جدة الجميلة وفنون القدس وزرابي الأطلس ومآذن القاهرة الشامخة ..
وأحد الإشكالات أيضاً أن التمسك بالبعد العالمي وحده سيضر بالثقافة المحلية فيجعل الجيل الجديد لا يعرف انتماءه الحقيقي لتأثره بالثقافة العالمية، ونسيانه لموارده الثقافية المحلية والتاريخية والتي ترتبط به.
من هنا فإن مسؤولية الجهات الثقافية وفي طليعتها وزارات الثقافة مسؤولية كبيرة لارتباطها بهوية الجيل وثقافة البلاد. وهي في الوقت نفسه حارس على بوابة الهوية وبوابة الثقافة ويحتاج كل منهما إلى صيانة ومحافظة حتى يتحققا دون أن يصطدم أحدهما بالآخر ويتعارض معه... خاصة أن الخطأ في هذا الباب ليس كخطأ التنمية أو الاقتصاد، يظهر أثره بعد شهورٍ أو سنةٍ أو سنتين، بل الخطأ في الثقافة والهوية قد لا يظهر أثره إلا بعد ثلاثين أو أربعين سنة. ويحتاج تصحيحه إلى مثل ذلك! وهذا هو عمر الإنسان ! وهذه مهمة شاقةٌ كان الله في عون من يقوم بها في وزارات الثقافة العربية كلها.
** **
د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com