م. بدر بن ناصر الحمدان
هل سبق أن حاورت نفسك ذات يوم «بتجرّد»، وأقنعتها بكل ما لديك من أدلة وبراهين أن هناك من هو أجدر وأكثر كفاءة منك لشغل موقعك الوظيفي؟ أو أنك لم تعد قادراً على تقديم «أفضل مما كان»؟، وماذا لو كان كذلك وتولّدت لديك هذه القناعة، حينها ما لذي يجب عليك فعله؟ هل ستستمر فيما أنت عليه وتمضي قدماً وتحاول أن تثبت عكس ذلك، مهما كانت النتائج، وبغض النظر عن معايير التقييم التي تستند إليها، أم أنك ستخطو إلى مرحلة متوازنة وتتخذ قراراً جريئاً ببدء المغادرة التدريجية لذلك المنصب وإتاحة الفرصة لمن هو أكثر كفاءة وشغفاً بالاضطلاع بمسؤولية ذلك المكان الذي تتسنّمه؟
بطبيعة الحال كل البدائل التي تطرحها الأسئلة السابقة ستكون في غاية الصعوبة لأنها تأتي في دائرة الصراع الداخلي بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة، فالنفس البشرية جبلت على حب الذات، لذا فإن من البديهي أن تكون قرارات الإنسان في الغالب تذهب لما يلبي منفعته الشخصية أولاً دون النظر إلى ما يحيط به من اعتبارات ترتبط بهذا القرار، إلا من رحم ربي، وهم فئة قليلة باستطاعتها التفوّق على نفسها والذهاب إلى قرار يحفظ الحقوق خاصة كانت أم عامة، لكن يبقى هناك دافع خفي، غالباً ما يكون وراء توجيه مثل هذا القرار.
ما أريد أن أشير إليه هو أن مجتمعنا لا يزال يتعامل بثقافة سلبية تجاه «ترك المنصب» فهو ينظر إلى الأمر على أنه حدث جلل ومستغرب، وأن «وراء الأكَمَة ما وراءها»، سواء كان ذلك الشخص «تاركاً» أم «متروكا»، لذلك تغيب عن مجتمعنا ثقافة مغادرة المكان طوعاً، لأنه لا أحد مستعداً للمغامرة بسمعته ومعنوياته وتركها على طاولة أفراد مجتمع يسيء التقدير ويصرّ على البحث عن «مبررات» و»دوافع» يفترض مقدماً أنها «سوداوية»، ولم يصل حتى الآن لمرحلة نضج لقراءة الموقف من زاوية أكثر تحضراً، تُعنى بالتعامل مع مثل هذا القرار بإيجابية، ونظرة تقدير واحترام لمن قرَّر أن يُغلّب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ويسلّم الراية لمن هو أكثر منه كفاءة وقدرة وتأهيلاً.
من جانب آخر فإن ربط أهمية الدور العملي للإنسان بِتَبَوُّؤَ «منصب وظيفي ما» في ذهنية المجتمع تعتبر ثقافة إدارية «متخلّفة»، ويجب أن تنتهي، فقيمة المرء تكمن في علمه وعمله الذي ينفع به أينما كان، وهو الذي يستمر معه، لا بقيمة المنصب الذي تذهب بتركه له، فجلّ العلماء والرواد والمفكرين والمخترعين والمؤثّرين ممن أحدثوا تغييراً في حياة الناس كانوا خارج المنظومة الإدارية برمّتها ولم يكن ذلك ضمن اهتماماتهم أو طموحاتهم التي كانت منصبة في مجملها على التركيز بما في يديهم من «مُنتج» استطاعوا من خلاله وضع البشرية على خارطة التطور والحضارة.
إذا ما كنت تشعر بأن هناك من هو أكثر كفاءة منك، أو لم يعد لديك شغفاً للذهاب إلى الأمام، أو بوصلة تفكيرك بدأت تتجه إلى التركيز على مسار متخصص يمكّنك من تقديم مُنتجاً فريداً، غادر موقعك الوظيفي «فوراً»، وساهم في تعزيز «ثقافة ترك المنصب» طوعاً، وكن واثقاً أنه في يوم ما، سيقدر المجتمع لك هذا القرار، وسيقف الجميع احتراماً لهذه المهنية الراقية.
دعونا نخوض هذه التجربة معاً.