د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الأغلب قد قرأ عن الحكم المستنصر بن عبدالرحمن الناصر، وابن الجارية مرجانة، الرومية الأصل، والحظية عند الخليفة الناصر لرشاقتها وأدبها وجمالها، التي استطاعت بدهائها أن تنتزع قلب الخليفة الناصر من يدي ابنة عمه المنذر، فاطمة القرشية، التي كانت سيدة نساء البلاط، وهو زوج صبح البافارية التي اغتصب الحاجب المنصور الحكم الفعلي للأندلس منها، ومن ابنها هشام المؤيد قليل العلم، ناقص الفهم، ظاهر السقم، في عقله وبدنه.
فقد كان عهده خاتم المسار الأموي الزاهر، والساحة الكبرى في العالم التي احتضنت العلم والعلماء بغض النظر عن أصولهم ودياناتهم، ومن جاء بعده كانوا ألعوبة في يد العامريين، وأهل قرطبة، والبربر، والحسينيين، وفتيان القصر.
لكن بذرة العلم التي زُرعت أنتجت فيما بعد علماء مثل ابن رشد وابن الطفيل وابن زهر وغيرهم. ورغم أن جهودهم قد أثمرت علمًا أسهم في بناء قاعدة التقدم الأوروبي إلا أن بعضهم قد دفع ثمنًا لفكره وانطلاقته العلمية بغض النظر عن اتفاقنا مع ما طرحوه من عدمه، لكن التأثير على المسار الأوروبي بقي واضحًا، فكانت أفكار ابن رشد قد اجتاحت أوروبا، وكانت جامعة باريس وأساتذتها قد تشربوا بالرشيدية، وأفكار ابن رشد وابن زهر وابن حزم وغيرهم، وقد كان اسم الرشيدية يعني ثورة فكرية كبرى، أحدثت جدلاً واسعًا بين الكنسية والعلماء، وأثارت اتهامات من رجال الدين الذين يرون المنهج العقلي لابن رشد، يفسد العقائد، ويدفع الناس خارج الإيمان، لكن ذلك التأثير الرشيدي لم يتم إلا بعد وفاة ابن رشد بعقود، ولم يكن لعلمه أن يدرس في زمانه.
ابن رشد وُلد في عام 1126 ميلاديًّا، الموافق خمسمائة وعشرين هجريًّا، وكان المرابطون قد أتلفوا بعض الكتب، كما فعل الحاجب المنصور بن أبي عامر، لكن الموحدين الذين جاؤوا بعدهم كانوا أكثر انفتاحًا على مبدأ الاختلاف في فترات، فقد انتقد عبدالمؤمن الموحدي إحراق الكتب؛ وذلك لشغفه وابنه يوسف بها، رغم أن الثورة الموحدية كانت ثورة دينية شديدة، وكان ذلك العصر هو العصر الذي عاش فيه ابن رشد، ولاسيما في عهد يوسف أبو يعقوب المنصور، وقد كان ينتقل بين المدن بحكم عمله، أو سبب نفيه، وألّف كتبه في مدن مختلفة، مثل قرطبة، وإشبيلية ومراكش، وتولى القضاء، وكان من أقرب الناس إلى الخليفة، لكن المنافسة والحسد والمثابرة على الكيد والاصطياد في الماء العكر جعلت أعداءه يهمزون ويلمزون عند العامة والخاصة متهمين إياه بتوسعه في قراءة كتب الأوائل مثل أفلاطون وأرسطو، وأنه يحكم العقل على النقل، ومنهم من اتهمه بالزندقة سرًّا، وكانوا يحضرون خطبه ودروسه لعلهم يجدون زلة لسان، تكون سلاحًا للفتك به. وقد نقلوا للمنصور واقعتين، إحداهما دعواتهم أنه عند تأليفه كتابًا في الحيوان ذكر الزرافة، وقال: «وقد رأيت الزرافة عند ملك البربر»، يقصدون المنصور، ولم يتبع ما يتطلبه حسن اختيار المفردات والجمل عند الحديث عن الملوك أو محادثاتهم. ووجد له ابن عبدالواحد عذرًا فقال: «إن ذلك جري على عادة العلماء في الإخبار عن ذكر ملوك الأمم، وأسماء الأقاليم، أما ابن رشد نفسه فقد اعتذر عن ذلك بأن ما قاله قد حرف من قِبل الحاقدين، فإنما قال ملك (البرين أي الأندلس وإفريقية، فزعموا أني قلت البربر تصحيفًا وتحريفًا)». لكن ذلك لم يغسل سخيمة صدر الخليفة أبي يعقوب المنصور، ولم يُزِل ذلك العذر ما علق بقلبه مما شابه أو رآه تحقيرًا له.
هناك زلة أخرى عظيمة قيل إن ابن رشد قد وقع فيها، إثر قول للمنجمين انتشر على ألسنة العامة، والمشرق والمغرب، هو أن ريحًا عظيمة سوف تشتد في يوم كذا، وسوف يهلك على إثرها قوم كثير، فجمع والي قرطبة العلماء وطلاب العلم، وعلى رأسهم قاضي قرطبة أبو الوليد أحمد بن محمد بن رشد، والشيخ ابن بندود، فعندما انصرفوا من عند الوالي اجتمعوا مع علماء التنجيم والفلك يتدارسون الأمر؛ لأن أهل الأندلس قد لجؤوا للكهوف والمخابئ خوفًا من الريح المحتمل حدوثها، فقال ابن الشيخ ابن بندود: إن صحت هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله بها قوم عاد. لكن ابن رشد عالم الشريعة والقاضي، وعالم الفلك والتنجيم، لم ير ذلك إلا من الخرافات، وأراد طمأنة الناس، ونفى نفيًا قاطعًا وقوعها طبقًا لروايتهم، فلا يعلم الغيب إلا الله، لكنهم قالوا إنه مع حماسته للنفي قد قال «والله وجود قوم عاد ما كان حقًّا، فكيف بسبب هلاكهم». صدق الله، وكذب من كذب بآياته. لكني أربأ بابن رشد وهو العالم أن يقول مثل ذلك، فإما أن النقل لنا من محمد بن عبدالله الكبير لم يكن صحيحًا، أو أن هناك تحريفًا في قوله حدث، ولاسيما أن حساده كثير، وقد انتشرت هذه الكذبة على ابن رشد حتى وصلت إلى الخليفة المنصور، وأحضروا الشهود، فكانت سبب نكبته. وقد يكون قد قال إن عادًا قد أهلكهم الله بالريح، فلم يعودوا بيننا الآن حقًّا حتى يهلكهم مرة أخرى بريح ثانية.