كم تشرئب النفوس لزيارة بيت الله الحرام، حجًّا أو عمرة، وكم تنتظره بشوق، فكثيرًا ما تمنع الموانع، وخاصة النساء، اللاتي يحتجن إلى ذي محرم قادر متفرغ، ولذا كان من دعاء النساء لبعضهن أن يحج بها أقربوها، ولدًا كان أو أخًا أو ابنَ أخ أو أخت.
ولقد كان من أكبر أمنيات الصبا أن أزور مع أمي رحمها الله تعالى البيت الحرام، فلما حقق الله ذلك بفضله وتوفيقه، كان من بركته أن التقيت رجلاً صالحًا عالمًا فاضلاً، أفدت منه، خلقًا وتعاملاً وتواضعًا، وإن لم أمتَّع به كثيرًا.
وكان من خبر ذلك أن سكنَّا أمي وأنا في أول رحلة بها إلى البيت الحرام، في الشامية، فكنا ندخل المسجد الحرام من باب العمرة، وكانت أمي ترغب أن تبقى في الحرم حتى تصلي العشاء، فأردت الخروج بين العشاءين، فما كدت أخرج حتى رأيت الشيخ عمر السبيل يصعد درجًا قرب الباب إلى خلوته، ومعه نفر من طلبة العلم، فلحقتهم، حتى دخلنا الغرفة الصغيرة، فقربني ورحب بي، ولم تطل عبارات السلام، وألفاظ المجاملة واللقاء، حتى دار حديث شائق، في النحو والفقه، والأدب والتاريخ، وكأن الشيخ يعرفني من زمن، وسأل عن جدي، الوالد زامل الصالح السليم، وتحدث عن أخباره ومناقبه، ثم تحدث عن عنيزة وصلتهم بها، وسأل عن (العنيزية) ملحمة الشاعر عبد العزيز بن محمد القاضي حفظه الله في تاريخ عنيزة، فأرسلت إليه من بعدُ منها نسخة.
لقد كانت لحظات بهيجة، ومجلسًا مثريًا، وانعقدت من تلك الليلة علاقة وثقى، ومودة صادقة، فتوالت اللقاءات بعد ذلك كلما سنحت الفرصة، في الحرم، وفي البكيرية إذا جاء زائرًا، وعقدنا موعدًا للقاء في عنيزة، فما تحقق.
ولم ألتقه مرة فلم أخرج بشيء، إما من علمه أو من خلقه، ومعهما عذوبة الحديث، وراحة المجلس.
لقد كان رحمه الله ذا معرفة بالرجال، من أهل العلم والمشتغلين به، فكان ذا أدب جم، وانتقاء بديع للألفاظ عند الحديث عن أحد منهم، أو عن شيء من تراثهم ونتاجهم، لا يتعرض لأحد بسوء، ولا يرفع أحدًا فوق مقداره، ولا يهضم حقه أو يبخس قدره، وهذا عزيز في الناس، فكم تؤثر العاطفة في الحكم، وخاصة في حديث المجالس، الذي يتساهل فيه بعض الناس، لما يأمن أن يؤخذ به أو يحاسب عليه، أو هكذا تُزيِّن له نفسه.
وفي ذات لقاء في الحرم، جاء أخوان عربيان، عرضا عليه كتابًا عن المسجد الأقصى، وما حوله في الأرض المباركة، وما يحف به من الأخطار، فأشار الشيخ عمر في معرض حديثه معهما إلى تبرع الملك فهد رحمه الله بترميم قبة الصخرة ومسجدها والمسجد الأقصى، الذي كان قبل عشر سنوات من ذلك اليوم (1412ه)، فما كان من الأخوين العربيين إلا أن تجاهلا أولاً، ثم أنكرا ثانيًا، وقالا: ما سمعنا بهذا التبرع، وإنما الذي تبرع هو الحكومة الفلانية. فكان موقف الشيخ حكيمًا متزنًا، حيث صرف جهة الكلام، وتجنب الجدال، ثم صرفهما بأدب، وذلك لأن تبرع الملك فهد رحمه الله لم يكن خفيًّا، وكان بعد نداء منظمة اليونسكو، وأشادت به آنذاك الدول العربية والإسلامية جمعاء، فكان تجاهلهما مثيرًا للاستفهام.
لقد كان ضبط النفس والاتزان دأبًا له، وخلقًا عرف به، روى الشيخ سليمان المشعل في كتابه (الغيث المجلل ص: 85) أن رجلاً دخل عليه، وجعل يسوق الانتقادات تلو الانتقادات حول بعض الإجراءات في المسجد الحرام، وقت رئاسة والده معالي الشيخ محمد السبيل رحمه الله، حتى أغلظ القول، فما كان منه إلا أن قال بنبرة هادئة واثقة: أبشر، نبلغه إن شاء الله. واجتمعت به مرة خارج الحرم، وكان معنا أخوان من دولة خليجية، يستفسران ويستفتيان، فأجاب وأفتى، وجر الحديث إلى تدريس الفكر الإسلامي، مادةً عامة في الجامعات، بدلاً من تدريس شيء من الشريعة عقيدةً وأحكامًا، فوازن بين ذلك، وأبدى رأيه، وتعرض لشيء من أثر الانشغال بالتنظير العام، عما يجب أن يعلمه المرء من الدين بالضرورة، كل ذلك في جلسة قصيرة ثرية، لم تتجاوز أربعين دقيقة، وكانت هذه آخر لقاء به، رحمه الله وغفر له. رحل الشيخ عمر رحمه الله في مطلع كهولته، وقد أتم ثلاثًا وأربعين سنة، إثر حادث مروري، وصلي عليه في المسجد الحرام يوم السبت الثاني من شهر الله المحرم عام 1423هـ
كان رحمه الله مجتهدًا في بذل العلم، فألف ودرس، وألقى المحاضرات، وأقام الدورات العلمية، فضلاً عن الخطب في المسجد الحرام وغيره من المساجد.
وقد مهَّد له ما حباه الله من عقل وحكمة واتزان، وروية وبعد نظر، مقدرةً إدارية، فتولى في جامعة أم القرى عددًا من المناصب، غير متشوف لها ولا متطلع، فسار فيها سيرة حسنة، وقادها بالعدل والحكمة والدراية، قال الشيخ صالح بن حميد حفظه الله في معرض حديثه عنه وعن مناصبه: «وفي ظني أنه لو امتدت به الحياة لكان له معها شأن أي شأن».
ولئن غاب رحمه الله، فلا يزال ذكره باقيًا، وأثره مباركًا، في مؤلفاته، وما سجل من خطبه ومحاضراته ودروسه، وفي عقب صالح، سار على نهجه، واقتفى أثر آبائه، بارك الله فيهم، وجعلهم خلفًا صالحًا مباركًا.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف – جامعة القصيم