المعلوماتي شخص يملك الكثير من المعلومات في شتى المعارف، قد يعتاد قراءة أمهات الكتب ويستخدم محركات البحث، ليزيد من رصيده المعلوماتي لا المعرفي ليتاح له الحضور في المنتديات والمجالس الخاصة متحدثًا ماهرًا وقادرًا على صناعة محتوى إنشائي يجعله محط أنظار الآخرين وإعجابهم وتقديرهم.
وهنا يأتي السؤال: هل هذا وأمثاله يمنكهم صناعة معرفة رصينة أو يمكن اختزالها في ذواتهم ومناشطهم؟
سؤال إجابته لا تحتاج إلى كثير تأمل أو إغراق في التفاصيل، فالمعلوماتيون في عصرنا الحاضر في سوادهم الأعظم لا يتعاطون المعرفة كفكرة مكتملة، الأصل فيها المعلومة كونها اللبنة الأولى، فضلًا عن إنتاجها، فالمعرفة إذا جاز التعبير والتعريف هي القدرة على الوصول إلى أفكار إبداعية من خلال المعلومات المتوفرة أو التي يمكن توفرها بالبحث والرصد والقياس.
إذًا المعرفة غاية والمعلومة هي إحدى تلك الطرق والوسائل التي تبلغ بها تلك الرتبة من التجلي والإبداع،كون المعرفة إحدى وسائل التميز والتمايز بين البشر والعصور ومختلف الحضارات.
جلال أمين الاقتصادي المصري، يذكر في أحد كتبه قصة طريفة ومفيدة، مفادها أنه سافر إلى إحدى الولايات الأمريكية، وكان يسكن في مدينة، ولديه عمل في مدينة أخرى، وهذا يتطلب ذهابه كل صباح إلى هذه المدينة، وهو ما يعني سيره من خلال طرق سريعة كثيرة اللوحات الإرشادية، هذه اللوحات الكثيرة ساهمت في تشتيت انتباهه وهذا يعني تغير بوصلة اتجاهه وتغير وجهته مما يعني خسارة وقت ثمين في البحث عن الطريق الصحيح الذي يوصله إلى وجهته الصحيحة، بعد محاولات فاشلة عديدة ،هدته تجربته إلى التركيز على لوحات محددة، ومن خلالها أصبح يتعرف على خط سيره الصحيح، وهذا ما دعاه إلى تجاهل كثير من اللوحات الإرشادية الأخرى، ما هي النتيجة؟ كان يصل إلى وجهته سريعا ودون فقدانه لبوصلة اتجاهه المحددة وهذا يعني حضوره في الوقت المحدد الذي تتطلبه مهمته الجديدة، يقول جلال أمين: (اكتشفت من خلال هذه التجربة، أن المعرفة ليست مجرد إضافة معلومات جديدة، بل قد تعني حذف بعض المعلومات التي تصبح مع الزمن عبئًا على الذاكرة والعقل وطرائق التفكير للوصول إلى مرافئ الإبداع).
وهنا يتضح مدى أهمية تبويب معلوماتنا وتصنيفها حسب ما تقتضيه أولوياتنا البحثية لصناعة معرفة تصنع الفارق لنا ولعصرنا الذي نعيش فيه، وهذا ما أسميه بالتجديد الذي يسهم في إزاحة العقل إلى مناطق جديدة أكثر رحابة وسماحة تعطيه الفرصة للتجلي والحضور والظهور.
العلم يتجدد والمعلومات تبقى ثابتة متاحة في محركات البحث وأمهات الكتب، وهذا ينطبق على المثقف المعلوماتي الذي يحفظ ويحفظ ويباهي بحفظه، لكنه يظل في النهاية مخزنًا معلوماتياً إن أسعفته ذاكرته بإبقاء هذه المعلومات فتظل تحتل مساحة كبيرة في ذلك العقل، وهذه المساحة مهما كبرت فإنها تتعود على الحفظ والأخيرة لا تعني أكثر من حضور معلومة في لحظة تستدعيها حاجة عابرة، وهذا ما يفسر قول هيكل الذي نقله المفكر المصري عبدالوهاب المسيري في أحد كتبه عندما قال: النسيان وليس التذكر هو من يصنع المثقف، وهذه تعني أن المعلومة للمثقف وغيره إن لم توضع في سياق عملياتي يفضي إلى معرفة وعلم فإنها تظل معلومة إنشائية لا تصنع ميزة ولا توصل إلى هدف.
في هذا الزمن تتزايد المعلومات ونستقبلها من كل حدب وصوب، ومصادرها أصبحت وفيرة ومتعددة ،في المقابل ساهم هذا التدفق المعلوماتي الغزير في انكماش مستوى المعرفة وصناعها ،وهذا ما يفسر الإنشائية كصفة سائدة عند الأغلبية العظمى من المحسوبين على الفعل الثقافي كون صناعة المعرفة تحتاج عقلًا نابهًا متخلصًا من متلازمات الحفظ وإعادة التدوير ومسائل التكرار والتقليد وهذا لن يتأتى إلا من خلال إعادة تحرير هذه المعلومات وقبلها العقل وتوظيفها في مسارات معرفية تصنع أفكارًا إبداعية تحسب للمثقف وتضعه في مستوى المفكرين صناع الفكر والمعرفة.
** **
- علي المطوع
@alaseery2