حاورها - حمد الدريهم:
منذ سنوات تحاول المؤلفة الموسيقية ومغنية الأوبرا الدكتورة هبة القواس خلق غناء أوبرالي عربي يمزجُ بين جذور موسيقية عربية تكاد تكون ضائعة اليوم وموسيقى أوبرالية غربية عبر تأليفها الموسيقي وأدائها الأوبرالي في مسارح عديدة من أنحاء العالم. «المجلة الثقافية» التقت بها لنحاورها حول الموسيقى وجذورها في الإرث العربي والثقافة العربية اليوم، بالإضافة إلى قضايا أخرى، فإليكم الحوار:
* يرتبطُ اسمكم دائما بالريادة الأوبرالية في العالم العربي، ماذا يعني لكم هذا الارتباط؟ وهل اكتمل مشروع الدكتورة هبة القواس في خلقِ أوبرا عربية تمزجُ بين جذور موسيقية عربية تكاد تكون ضائعة اليوم، مع موسيقى أوبرالية غربية؟
- السؤال مُركّب بطريقة رائعة. الأوبرا تعني لي أنها عُمري كله، بدأ مشواري معها منذ المهد، كان لدي في ذلك الوقت « Lactose intolerance « / « عدم تحمل اللاكتوز «، كنت أبكي عندما أشعرُ بآلام ببطني من آثار الحليب وكان الجيران يستفيقون على صوتي، منذ تلك اللحظة الزمنية البعيدة، أي عندما كان عمري بضعة أشهر، كتبت والدتي في مذكراتها عن صوتي: (أن صوتها أوبرالي)؛ لذا تنبّهت والدتي وبدأت تضع لي الموسيقى الكلاسيكية مثل أعمال: تشايكوفسكي، بيتهوفن، وكنت أغني مع اللحن، وعندما أصبح عمري عامين ونصف بدأت أعزفُ البيانو وفي عمر الأربعة أعوام بدأتُ أؤلف الموسيقى.
أيضاً وفي ذلك العمر المبكر كانت والدتي تُضع لي (ماريا كالاس) فكنت أُخطِئ في نطق اسمي فكنت أقول (هبة كالاس) بدلاً من (هبة قواس)؛ لذا والدتي جعلتني أستمع أكثر إلى صوت ماريا فعرفتني على صوتها، وكانت تُدهشني تماما مثل الموسيقى العالمية، وعندما أستمع إلى موسيقانا العربية تنتابني حالة من الإحساس بالحزن والشجن والحنين.
ومع التطور الذي حصل معي استوعبت أن الشجن هو عمقنا الشرقي وهو النور وما فيه من أحاسيس دفينة بداخله والعالم الغربي بعظمته الأوركسترالية والمدى الصوتي الذي لديه؛ لذا فكرت وتساءلت إذا مزجناهما ما الروح الموسيقية التي ستُخلق نتيجة ذلك المزج؟
لذا بدأت بأول محاولة منذ عمر ستة أعوام، إذ أقمت أول حفلة في ذلك العمر، وقدمت حفلات على هذا النمط إلى أن درست بإيطاليا وطوّرت المشروع أكثر وتمكّنت من تقنيات الأوبرا بصورة أعمق ومن ثم رجعت لموسيقانا العربية.
أتفق معك في جملتك التي ذكرتها بالسؤال وهي للأسف حقيقة: «جذور موسيقية تكاد تكون ضائعة اليوم» فعلا تلكم الجذور لا نعرفها بالمعنى الحقيقي؛ لكن الجمال في الموضوع أنها منوعة، بالتفاتة حقيقية منّا يمكننا اقتفاء أثر وجذور الموسيقى العربية عبر الموسيقى التقليدية الموجودة في كل دولة عربية ولكن للأسف الناس لا تعرف كل الموسيقات في العالم العربي باستثناء الموسيقى المصرية لأنها الأكثر شهرة بسبب السينما وانتشار الأغاني عبر الأفلام في بدايات القرن العشرين، صحيح أنها جزء من الموسيقى العربية الحديثة؛ لكن ما أعنيه من جذور موسيقية عربية هي تلكم الموسيقى العربية القديمة التي كانت في مسارين تاريخيين من حقب قديمة:
الأول: الموسيقى التي كانت في شبه الجزيرة العربية والموسيقى التي كانت في حضارة بلاد الرافدين وبلاد كنعان وما كان لدى الفراعنة. وانتقال تلكم الموسيقات للأغريق وللرومان ومن ثم ما ورثته أوروبا.
الثاني وهو مهم: خروج الموسيقى العربية من شبه الجزيرة العربية إلى الدولة الأموية التي فيها مزج الأمويون ما ورثوه في شبه الجزيرة العربية مع ما وجدوه في دمشق ونقلوها للأندلس إلى انهيارها.
بالإضافة إلى الدولة العباسية التي تطورت فيها الموسيقى العربية تطورا هائلا على المستويات العلمية والتقنية والموسيقية.
تلك الموسيقى لا نكاد نعرف عنها شيئا؛ لكن بعضها ورثها المغرب العربي والجزء الشعبي الذي كان تابعًا للناس والشارع أصبح (فلامنكو) في إسبانيا وجزء منه ذهب لأوروبا ودخل مجالات تطورية كبرى منها في تقنيات الأوبرا وهذا ما استنتجته من أبحاثي التي عملت عليها في الأوبرا أن جذورنا الموسيقية داخلة علميا فيها ومنحتها بعض القواعد الأساسية بالغناء الأوبرالي، وهذه كانت طبيعة العلماء العرب في ذلك الوقت كانوا يضعون الموسيقى كعلم مثل الفلك والرياضيات وغيرها، وهم منحوا قواعد أساسية في تلك العلوم، كما فعل الفارابي في كتابه (الموسيقى الكبير) وهذا يعود بالأساس إلى الإغريق الذين لم يفصلوا الموسيقى واعتبروها كعلم، فعلى سبيل المثال فيثاغورس كان موسيقيا ورياضيًّا وفيزيائيًّا.
على الرغم من ذلك الضياع؛ لكننا نستطيع تلمّسها في أجزاء متفرقة من العالم العربي مثل المملكة العربية السعودية بمناطقها المختلفة ومصر وبغداد والموصل وحلب ودمشق وفي المغرب والجزائر وتونس لأنهم ورثوا من الأندلس وغيرها في بقية أجزاء العالم العربي، وهي أضحت غنية بتنوعها وامتدادها وما نعرفه بقي على مستوى الموسيقى التقليدية لكن الموسيقى المتطورة التي طورها العرب ضاعت؛ لذا أنا اشتغلتُ كثيراً حتى أمزج بين ذلك الإرث وأبني جسوراً بين روحنا الموسيقية الشرقية العربية وتقنيات الموسيقى العالمية على كافة المستويات في التأليف والكتابة وحتى على مستوى الأداء الصوتي التقني، وما يخصّنا نحن هي الروح الموسيقية وكيفية كتابة موسيقى تنبع من أرضنا فأنا لا أستطيع كتابة موسيقى من أرض ألمانية فأنا من أرض لبنان ذلك البلد العربي المتوسطي الشرقي الذي فيه ولدت في صيدا الساحلية تحديداً، وفيها ورثت إرث البحر المتوسط الذي يحمل إرث الموسيقى العربية والشرقية بصورة عامة والموسيقى البيزنطية وغيرها، وبصفتي مسلمة ورثت التجويد القرآني والإنشاد الديني فكل هذا المزيج وضعته في قالب علمي عالمي وتمكنت منه علميا؛ لكنني لحظة الإبداع والدفق والإلهام أنسى القواعد الصارمة وأرميها وراء ظهري وأُبدع هذا من ناحية الكتابة الموسيقية.
ومن ناحية الصوت حافظت على مخارج الحروف والعُرب الصوتية والتزيين الصوتي الذي يعد شرقيًّا ووضعتُ الحرف العربي في وضعية صوتية بين موضعين، ليست تلك الوضعية الصوتية الأوبرالية المضخّمة ولا الوضعية التي تستخدم الحنجرة البحتة؛ لأجمع بين تقنية الأوبرا التي تطلق وتحرّرُ الصوت لمساحات واسعة وأن أوازن ما بين حرية الصوت وبين الحرف وخصوصيته الضرورية. اشتغلت ودعمتها بالأبحاث وكما ذكرت لك آنفاً أن تقنيات الأوبرا كانت حاضرة لدينا في الأندلس والعصر العباسي، كانوا في ذلك الزمن عندما يدرّبون على مخارج الحروف وكيفية نطق الحرف يضعون قلما في الأفواه وزرياب استخدم تلك الطريقة؛ كي يُطلق المغني صوته من تجاويف الخدود والجمجمة والرأس وحتى لا يسقط الصوت إلى الحنجرة، حيث ينكسر وينحد من مساحته وفي ذلك الوقت كانت المساحة الصوتية في الغناء واسعة لدرجة أن الطبقات الصوتية ممتدة وتوازي المساحات الصوتية لمغني الأوبرا في الوقت الحالي؛ لذا لما عدت للعالم العربي بدأت أعمل على هذا الوصل مع ما ورثته ومع ما تعلمته بإيطاليا من منطلق حضاري.
المتابع لسيرتكم الموسيقية سيلحظ في السنوات القليلةِ الماضية نُمو المتابعة الجماهيرية للموسيقى الأوبرالية التي تقدمينها في العالم العربي؛ بالرغم من ذلك النمو أمازلتِ تشعرين بالاغتراب الموسيقي؟ وما أسباب ذلك النمو من وجهة نظرك؟
- في بداية التسعينات كان أهم مثقفي العالم العربي الذين كانوا يحاورونني يسألونني: ما هذه الموسيقى التي تقدمينها؟ وهل هي من تراثنا وجزء من ثقافتنا؟! وغيرها من الأسئلة. حالياً مع الجيل الجديد الذي عمل في ذات الطريق الذي فتحته بقوة لم تعد تلك الأسئلة حاضرة.
حفرت بأصابعي في الصخر ومنذ ذلك الوقت كنت مدركة بأن الفكرة سيكون لها زمنها ومردودها ما دام أنها وُجدت وظهرت؛ لأني أؤمن بالخوارزمية الكونية التي توازن الأشياء وبالمشيئة الإلهية في التزمين والمواقيت التي أؤمن بها.
وكنت مُدركة أيضا بأنني سأواجه الصعوبات؛ لأنني أشتغل على فكرة جديدة ليست موجودة وفيها تقنيات صعبة وسأواجه الإعلام والمتلقي والمستمع في زمن الجمهور الذي يصفق بدون وعي. والمادة الموسيقية التي أطرحها تحتاج إلى مستمع بفكره هنا الصعوبة التي واجهتُها؛ لكن حاليا كرة الثلج كبرت والمشروع تطور أكثر وأكثر.
بالنسبة للاغتراب، أنا في كل حياتي لم أشعر بالاغتراب لأنني أتصور أن كل إنسان له عالمه الخاص الذي يخلقه ويعيش فيه حتى وإن كان وهميًّا أو افتراضياًّ. يُسافر ويعمل وينتقي الأصحاب سواء كانوا مفكرين أو مثقفين ويشاركهم همومه.
لفترة طويلة وبسبب إصراري حميتُ ذاتي من العالم الخارجي الذي لو استجبت لِما فيه من إحباطات لأصبت بالإحباط، أنا خرجت من بلد فيها حرب وولدت في زمن الحرب وعملت ولم يكن في ذلك الوقت أي دعم أساسي للثقافة؛ لكنني بالرغم من تلك الصعوبات عملت وأنتجت أعمالي ولدي أكثر من 300 مؤَلّف موسيقي لم يصلوا للناس؛ لأنني أعتمدُ على ذاتي بالإنتاج ولم يصل إلا القليل من تلك الأعمال.
في المجمل لم أشعر بالاغتراب حتى قبل وجود مسار أوبرالي عربي؛ لكن الأمل أصبح قائما الآن وذلك المسار الأوبرالي له حضوره ومستمعيه في كل أرجاء العالم العربي بالإضافة أنني فتحتُ ذلك المجال في أوروبا وأصبح حاضراً هناك.
من يتأملُ المكتبة التراثية العربية سيلحظ قلّة الأعمال المعرفية التي تتناول الإرث الحضاري للموسيقى العربية مقارنة بثقافات وسياقات حضارية أخرى، من وجهة نظركم كيف أثّر ذلك على الشكل الحضاري للثقافة العربية بصورة عامة وعلى حال الموسيقى العربية في العصر الحديث بشكل خاص؟
- بدون شك أن انقطاعنا عن موروثنا الموسيقي الذي تطور في أوج حضارتنا أثّر بصورة كبيرة وهو الحال في العديد من العلوم التي انقطعت عنّا في حين أن الغرب أخذها ونسبها إليه وأضاف عليها. يعود سبب ذلك الانقطاع على مستوى الموسيقى إلى أن التدوين الموسيقي في ذلك الوقت يختلف تقنيا عن التدوين الموجود حالياً ومعظم المخطوطات الموسيقية القديمة التي كانت بالعصر العباسي غرقت بالنهر إثر اجتياح بغداد وبعض ما تبقى من تلكم المخطوطات انتقل إلى مكتبات أوروبا في بولونيا وفرانكفورت وغيرها. وآمل أن أرى تلكم المخطوطات كي أجري عليها بعض الدراسات المفصّلة عنها.
لا نعرف عن تلك الموسيقى العظيمة التي كانت بالعصر العباسي والأندلسي إلا تصوّرًا، ودلالة الانقطاع عندما نقرأ الكتب نجدها موثقة بالنصّ اللغوي فقط وليست موثقة سمعاً لأنه لم يكن في ذلك الوقت التسجيل الصوتي، وليست محفوظة بالتنويط الموسيقي، على سبيل المثال عندما يصف الأصفهاني أن الأوركسترا في العصر العباسي كانت تتألف من 600 عازف، فإننا نتساءل ما الشكل الموسيقي الذي كان يتطلب كل هذا العدد؟ (بغض النظر إن كان العدد 600 أو 60) وفي موضعٍ آخر حينما يصفُ المُغنّي بأنه ينتقلُ من (القرار للجواب إلى جواب الجواب ثم إلى الصريخ ومنه إلى صريخ الصريخ ويعود إلى القرار ثم قرار القرار إلى الجهير ثم جهير الجهير) لنتأمل هذه المساحة الصوتية العجيبة التي ربما تتعدى مساحة مغني الأوبرا في العصر الحالي ويحضر السؤال مرة أخرى ما شكل ذلك الغناء؟!
وإذا تأملنا الفارابي عندما كتب عن وضعيّات الأصابع مجتمعة في اليد اليسرى بالعود وعن استعماله لخمسة أصابع في اليد اليمنى أثناء عزفه على العود وضربه عدّة أصوات مع بعضها ليست لمجرد لحن فرديٍّ واحد، هذه دلالة على وصول الموسيقى العربية لتعدّدية الأصوات في ذلك الوقت وأن تلك التعددية في الأصوات أخذها الغرب من عندنا وكذلك حين كتاب عن التطابق والتوافق. ولنتأمل ما لدى زرياب الذي كان عوده أكثر من 8 أوتار وتطور منها «الآلة الوترية «/ «Lute» بأوروبا حالياً.
وعلى الرغم من ذلك الانقطاع إلّا أن بعض آثارها بقي في هيئة موسيقى تقليدية وفلكلورية في المملكة العربية السعودية وأجزاء من العالم العربي فمثلاً مقام الحجاز الذي خرج من المملكة العربية السعودية يُعدّ أساسًا لموسيقانا العربية وشيء منه وجزء من مقام الكُرد ساهم في الموسيقى الإسبانية والمغرب العربي، كذلك الموشح الأندلسي أثّر على أوروبا ويظهر ذلك في (التروبادور) / وكذلك غناء (النوبة) الذي يشبه كثيراً (المادريجال) الحاضرة في أوروبا منذ ذاك الزمن حتى الآن. وهناك بعض المقامات والأنماط الغنائية ورثناها عن الفُرس الذين أخذوها من الهند، فعلى سبيل المثال «ربع الصوت» هندي ولديهم أقل من ربع الصوت مثلاً 1 على 12، وتلك صبّت ببلاد فارس بسبب الهجرات من الهند إلى شرقها.
لنتصوّر لو أن ذلك الانقطاع لم يحدث، لكانت الموسيقى العربية في آفاق واسعة؛ ولكن الأمل برأيي يبقى بمثل تلك المحاولات الفردية من قِبلي ومن بعض المؤلفين الموسيقيين في العالم العربي وأن تُجمع تلك المخطوطات القديمة وندرسها ونحافظ على التراث الشفهي للموسيقى العربية من خلال الأشخاص الذين يؤدونها كما هي نقية بدون أي تدخلات لأنماط موسيقية غريبة، فإذا أصبحت كل هذه الكنوز في المتناول بلا شك بأنها ستصبح رافداً مهماً نغرف منه لإثراء الموسيقى العربية والتأليف الموسيقي العربي المعاصر.
يقول الناقد والكاتب الإنجليزي والتر باتر في كتابه (عصر النهضة: دراسات في الفن والشعر): « كُلُّ أنواع الفنون تصبو الوصول إلى حالة الموسيقى «؛ على الرغم من العمقِ وألقِ السمو لفن الموسيقى؛ إلّا أن المتأمّل في مختلف السياقات الحضارية المتراكمة عبر التاريخ يجد أنها أقل الفنون فاعلية في صناعة جذور أي حضارة، كيف تفسرين ذلك؟ هل ذلك يعود إلى الطبيعة الذاتية لفن الموسيقى في هذا الكون؟
- يُخيل للناظر أنها لا تؤثّر لأنها تجريدية أشبه بالأرواح؛ لكن الحقيقة أنها أساس التأثير والتطور الحضاري لكل الشعوب في العالم وقياس تطور أي شعب بمدى تطور موسيقاه.
الكون كله موسيقى بما فيها خلايا الإنسان التي فيها ذبذبات فمن دون تلك الذبذبات أو الموجات الصوتية لا يكون هناك وجود أصلاً؛ لأنها مُكوّن رئيس وأساسي للكون. كما أن الأشياء المرئية وغير المرئية لها تردد صوتي قد يكون مسموعاً وغير مسموع؛ لأن الله عزّ وجلَّ شاء أن يكون هناك حدود لما يسمعُه الإنسان.
الصوت أثره واضح على الإنسان فمثلاً إذا كان ملوّثًا وضجيجاً فإنه يُؤثّر سلباً على الإنسان؛ لكن إذا كان الصوت عذبا نقيًّا ورقيقًا وينسجم مع طبيعة الإنسان فإنه سينعكسُ إيجابًا على جسده وروحه وعقله وليتحسّن ويتطوّر من هنا يكمن التأثير العميق على الإنسان نفسه الذي يقوم بالبناء والفعل الحضاري.
في أغنيتكِ (عرفتُ بيروت) من يتأملها يجد أنها أشبه بوثيقة تاريخية موسيقية مُصغرة تعكس بصورة غير مباشرة التحولات الكبرى التي حدثت لبيروت.. هل يُمكن أن تعيدي تلكم التجربة لتصبح أكثر اتساعاً لتُوثّق تاريخ العالم العربي وما مرّ به من تحولات في العصر الحديث من خلال رؤية موسيقية مختلفة تدوّنُ تلكم التحولات؟
- أغنية (عرفتُ بيروت) واحدة من أهمّ أعمالي الموسيقية المكتوبة بأوركسترا وتقنية أوركسترالية ضخمة وهي من الأغاني الأوبرالية التي تستعمل تقنيات صوتية دقيقة ومساحات صوتية واسعة، وهي من شعر دانه، وستصدر في تسجيل جديد ضمن ألبومي القادم بعنوان: (صوتي السماء).
اشتغلتُ على عمل موسيقي مدته 15 دقيقة تقريباً، لم يظهر بعد، كتبه الشاعر اللبناني المعروف هنري زغيب يقول فيه:
«يا أيها الآتي من الزمان..
عرِّج عليّ قبل أن تأتِ..
هدىً تبصّر نبضة الوقتِ..
واقرأ على جبينيَ الطريق.. و طُف معي... «
ذلك العمل يخاطب الحضارات القادمة المُستقبلية التي ستأتي لتستمدّ من حضاراتنا القديمة الموجودة في كل زاوية من عالمنا العربي من بلاد الرافدين، الفراعنة، والأنباط وغيرها من الحضارات القديمة. بالإضافة إلى أنها تحكي دول العالم العربي حالياً ففيها توثيق لتاريخنا وسيصدر قريباً؛ لكنني أخرته بسبب صعوبته الموسيقية و التفاتي مؤخراً لصدور أعمال موسيقية تكون جسراً مع المستمع العربي؛ لأن من واجبي أن أمد تلك الجسور معه حتى يستمع لأنماط موسيقية جديدة.كما أنني بصدد عمل فكرة جديدة تحكي مستقبلنا كيف نستمدّ منه.
في بدايات مشوارك المُوسيقي يبرز اسمان هما: الدكتور وليد غلمية الذي يُعد من أهم الموسيقيين في العالم العربي والمُغني الأوبرالي الإيطالي كارلو بيرجونزي، أحد أهم الأصوات الأوبرالية في القرن العشرين، الآن بعد تجربتكم الممتدة، أما زالت آثارهما باقية في تأليفك الموسيقي و في صوتك أم أنكِ انعتقتِ عنهما؟
- أؤمنُ أن كل حدث،مهما كان حجمه، يحصل في حياة الإنسان سيُؤثّر فيه، لقائي معك اليوم سيكون له الأثر، حتى شجرة الزيتون التي نجلس أمامها الآن ستكون جزءًا من موسيقاي في قادم الأيام، فما بالك إذن بشخصيتين عظيمتين عشتُ معهما حياة موسيقية وعملية في أرض الواقع، فالدكتور وليد غلمية كان أستاذي منذ الصغر ثم أصبح صديقي وحافظ سرّي وأيضاً كنا زملاء عندما ساهمتُ معه في تأسيس الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية، وأيضاً في المعهد الموسيقي الذي لا زلت عضواً فيه، في ذلك الوقت كان رئيسي، فهي رحلة عمر ممتدة معه على الرغم من رحيله إلّا أنه سيظل دائماً جزءاً من حياتي اليومية.
بالنسبة للإيطالي كارلو بيرجونزي أحد أهم أصوات القرن العشرين منحني من تجربته كثيراً وأتذكر كلماته في كل لحظة؛ لاسيما عندما أعمل على التقنيات الأوبرالية.
كان يُريدني أن أغني وأغرفُ من المخزون (الريبرتوار) الأوروبي الأوبرالي الكبير ليقدمني في السكالا دي ميلانو وأسيرُ في عالم الأوبرا الكبير. كان يُساءلُني: «لِم تتركين كل هذا في أوروبا وتعودين للعالم العربي؟» كنتُ مُصِرّة على العودة؛ لكي أخلِق وأفتح هذا الطريق الجديد في عالمنا العربي، اقتنع فقال لي: «اعملي ما شئتِ في العالم العربي لكن عُودي لأوروبا لتغني هذا المخزون الأوروبي الأوبرالي»، ومرّت السنوات عدت لأوروبا لأراه مرة أخرى. كما أنني رأيتُ أحد أساتذتي في البيانو خلال قمة حائزي جائزة نوبل التي عُقدت في دار الأوبرا في وارسو وكنا معاً على نفس طاولة المؤتمر نحاضر معاً، فلم يصدق عندما رآني بعد هذه السنوات وقال لي:» أنتِ استطعتِ تحقيق أحلامك من ذلك الطريق الجديد». فمن جذوري استطعت تحقيق ذلك ومنهُ دلفتُ إلى أوروبا والعالم، وليس من المسار الأوروبي الممتد عبر التاريخ.
و أثرهم المزروع فيّ لا يعني السير في الطريق ذاته الذي ساروا فيه؛ بل إننا نتمرّدُ أحياناً لنخلق أشكالاً إبداعية أخرى لكن الجوهر يبقى كما هو. مثل الذهب المصهور الذي يُصهر ليكون في أشكال إبداعية مُختلفة ومتعددة.
وهذا الأمر ينطبق أيضاً على موسيقاي التي كنت أحلم بها منذ الطفولة،كنت دائما ولا أزال أحب أن أكون قناة نقية صادقة في هذا الكون أحكي من خلالها وأعبر فيها، وكلما ارتقينا بدرجات الوعي والعلم والفكر تصبح تلكم القناة أكثر نقاء، فهي ذاتها لم تتغير ولكنها تكبر.
و لا أنسى والِديّ، كنتُ الوحيدة لهما، كان لهما الأثر الكبير؛ لاسيما والدتي التي تابعت كل شيء، علمتني القراءة والكتابة بعمر عام ونصف؛ على الرغم من وقت اللعب في ذلك العمر، وفي البيت أحضرت أستاذاً في البيانو لكي يعلمني العزف منذ عمر مبكر جداً. فالذين ذكرتهُم لا يُمحى أثرهم لأنهم يكونوا جزءًا من المعجون الذي أنت فيه.
هل يمكنُ أن تصفي لنا شعورك لحظة نقرِ أصابعك مفاتيح بيانو؟
- منذ الطفولة والبيانو هو رفيقي ولعبتي التي ألعبها و لا يزال..
عندما أنهيتُ دبلوم البيانو والدروس التعليمية المتعلقة به، لم أُقرّر أن أكون عازفة بيانو فقط؛ لأنني أردت أن يكون مرافقاً معي عندما أؤلّفُ وأفكرُ وأغنّي وفي حال الفرح والحزن وكل أحوالي.
أنا وحيدة منذ صغري ليس لدي أخوة لذا حال شعوري بالوحدة هو المكان الذي ألجأُ إليه، عندما ألمسهُ يكون راحتي وطمأنينتي و بيتي هو كل شيء بحياتي.
لذا ذات مرة كتبتُ عن ذلك الرفيق: « لمستُ الصوت قبل أن أُولد، ولامسني حيث الروح، ونطقتُ طنينًا أزليًّا ولم أكن أعي السمع بعد؛ لكن السماع سبقني و احتلَّ كوني الصغير و منذ تلك الولادة و أنا أُحبُّه..
أحُبُّ البيانو الذي رافق طفولتي وأهداني أجنحة تطال الموسيقى؛ بل تطال الكون...».
من يتابع أعمالك الموسيقية التي تقدمينها في العالم العربي، سيلحظُ ندرة النقد الجاد لتلكم الأعمال؛ ربما لنوعيتها، كيف تتعاملين مع نُدرة ذلك النقد؟
- برأيي أن النقد الموسيقي غائب عن العالم العربي؛ نظراً لمعضلة عدم وجود التطور الحقيقي للموسيقى وهذا يعود جذريًّا للانحدار الحضاري للعالم العربي على كافة المستويات والأصعدة إلا في استثناءات قليلة مثل الشعر والرواية والفن التشكيلي.
فحالة انحدار الموسيقى انعكاس طبيعي للانحدار الحضاري العام؛ لأنه لا يمكننا فصل الموسيقى عن الحالة العامة التي يعيشها العالم العربي وهذا الأمر انعكس سلباً في عدم خلق أرضية حقيقية لصناعة موسيقى عربية متطورة، إذ لا يوجد هناك مسارح أوبرا منتشرة في العالم العربي إلا مع استثناءات قليلة حصلت مؤخراً، ولا يوجد شركات إنتاجية متخصصة تهتم بصناعة ذلك النوع من الموسيقى مثل تلك الشركات التي تهتم بصناعة الموسيقى الاستهلاكية. لك أن تتخيل أنني أقومُ بدور الإنتاج والتأليف والتنسيق وهذا أمر مكلف بالنسبة لي ويُرهقني أحياناً؛ لكنني اُضطر للقيام به لغياب تلك الأرضية؛ ولأن طريقة التعامل مع الموسيقى الكلاسيكية تختلف تماماً عن الموسيقى الاستهلاكية، الطاقم الذين يعمل في الموسيقى الكلاسيكية بما فيهم مهندس الصوت و المخرج والمصور يجب أن يكونوا على دراية تامة بالموسيقى وما هيّتها وبقراءة المُؤَلَّف الموسيقي؛ لذا عندما كنت في حفلتي بالرياض أحضرتُ مخرجا ألمانياًّ متخصصاً في الموسيقى الأوبرالية وكان مُؤَلَّفَي الموسيقي بين يديه أثناء الإخراج يقرأه لكي يُواءم انتقال الكاميرا مع المُؤلَّف الموسيقي الذي بين يديه ويعرف الأدوار المتبادلة بين العازفين والمغني وكل شخص يقف على المسرح. ولكي أوضح درجة الاختلاف في التعامل أذكر ذات مرة في إحدى الدول العربية تعاملتُ مع مخرج في الموسيقى الاستهلاكية؛ لإخراج عمل موسيقي فتفاجأت بأنه يُقطع الكاميرا لأجل إثارة عين المشاهد وليس وفقًا للمُؤلَّف الموسيقي فاُضطُرِرتُ أن أقوم بتقطيع الكاميرا وفقا للمؤَلّف الموسيقي فهذه الحكاية تبين لك مدى الاختلاف وما يحصل في طريقة التعامل مع الموسيقى الاستهلاكية والموسيقى المتطورة النابعة من منطلق حضاري.
إذا عرّجنا على واقع الكتابة عن الموسيقى في العالم العربي غالبا يكون مبنيًّا على عواطف وآراء خاصة و مقدار ما استمعوا إليه من موسيقى طوال حياتهم وليست مبنية على علم فالناقد لابد أن يكون عالماً بالموسيقى و متخصصا فيها (musicologist)؛ لذا لا بد من وجود أقسام متخصصة بالجامعات تُعنى بعلم الموسيقى (musicology). لعلي أذكر في هذا السياق تجربة تعاون لمؤسستي(HKI) مع أحد المهرجانات في أبوظبي حول أسس الكتابة عن الموسيقى الكلاسيكية وسبق أن تعاونت مع بعض وزارات الثقافة في العالم العربي لترسيخ الموسيقى الكلاسيكية بمثل هذه المبادرات والتعاونات وجهود بعض الموسيقيين في العالم العربي بالإضافة لوجود أقسام متخصصة بالجامعات نستطيع المساهمة في تأسيس أرضية للكتابة النقدية الموسيقية.
وعلى أية حال، بطبيعتي الشخصية أتعامل مع أي شيء يُوَجَّه إليّ سواء كان في صيغة نقدية أو أي صيغة أخرى كرسالة قُدِّرت لتكون لي، ربما تكون سببا في تنبيهي إلى أمرٍ ما، غاب عني أو حتى لتعيدني إلى ذاتي لكي أراني، وأُعيد بناء ذاتي من جديد.
بعد إصغائهم العميق إلى صوتِك، موسيقى أيديهم تعلو امتناناً؛ لتُعانق سمعك وأنتِ واقفة على منصة المسرح لحظة انتهائك من إحدى أُغنياتك.... كيف تصفين تلك اللحظة؟
- هذه اللحظة التي تحلق بي عالياً وتمدّني بالقُوّة مع إحساسي الداخلي العميق تخلقُ دائرة تبادلية لانهائية مستمرة ما بين صوتي الذي أمنحهُ لهم و تفاعلهم عبر صوت قلوبهم الذي أسمعهُ حتى قبل صفق أيديهم وهذا يمنحني القوة لأقف ساعتين في نمط غنائي صعب.
أيضا أتصوّرُ أن تلك اللحظة فيها مسحة من البراءة الطفولية التي تكون داخل أي إنسان، لنتذكر عندما كنّا أطفالاً كيف أن (تصفيق الأم) يمنحنا التشجيع لنستمر في اللعب؛ على الرغم من تلك المسحة الطفولية في تلك اللحظة إلا أنها عميقة و تمدنا بالطاقة.
عندما نقف على المسرح لا نقف للحظة، بل بِعُمرنا كله بذلك النمط الموسيقي الجاد الذي يختزن روحنا و معرفتنا تجربتنا وحبّنا لمن يستمع إلينا ليُبادلنا الحب و لكي نخلق تلك الدائرة اللانهائية المستمرة بيننا.
هناك من يرى بأن غياب تدوين «النوتة» للموسيقى العربية خلال قرون مضت عزّزَ من هُويتها مقابل موسيقى أوروبية اعتمدت تدوين «النوتة» الموسيقية وفق نظام رياضي مُعيّن،ولأن الموسيقى العربية كما يرون من أصولها الارتجال الموسيقي والتلقّي الحسّي في تقييمها الذي تعود جذوره إلى الاتجاه القديم في العصر اليوناني الذي تبنّاه أرسطكاس، وهناك من يرى العكس تمامًا أن ذلك الغياب حالَ دون تطور الموسيقى العربية، فما رأيُكِ؟
- برأيي كلاهما يصح غياب التدوين منعَ التطوّر الحضاري للموسيقى و لكنه في الوقت نفسه أبقانا في فلك الارتجال الموسيقي الذي كان حاضرًا في الموسيقى العربية خلال حقب ماضية؛ ولكن المفارقة أن الارتجال حاليا لم يعد بمعنى حالة التجلّي الإبداعية التي تُظهر ما هو لافت، ما ألحظُهُ في ما يسمى بالارتجال في الحالة الموسيقية العربية اليوم بصورة عامة، أنها تدور كلها في ذات التقاسيم ولا يوجد حالات ارتجالية إبداعية إلا فيما ندر، وبحكم تجربتي السابقة في ارتجال أعمال موسيقية كثيرة قبل تدوينها، فهي حالة إلهامية يكون فيها المُؤلِّف أو العازف خارج القوانين الصارمة للآلة؛ ليبدع ما هو لافت.
والمبدع الموسيقي بشكل عام هو الذي يجعل كل ما اختزنه من علم وتجارب ومعرفة وموهبة جرت بعروقه؛ ليصبّها في الحالة الموسيقية ليبدع، وهذا يُطوّر من الموسيقي نفسه، لتتطور الموسيقى بشكل عام؛ لكن إذا كان أكاديميًّا بحتًا في الموسيقى و لم يترك الموهبة هي الدليل العميق لموسيقاه التي يُبدعها في الغالب لن يصل لحالة إبداعية متطورة، وهذا الأمر ينطبق على معظم المجالات الإبداعية فالمبدع الحقيقي لا تقيده القواعد الصارمة لكنه يتعلمها و يستوعبها؛ لكي يرميها وراء ظهره لحظة الإبداع.
والبعض يعتقد أن الطرب هو خاص بالموسيقى العربية و جزء من هُويتها، الطرب حالة نشوة، هناك عاملين تحددانها: مدى تطور ذوقك الموسيقي و مقدار ما استمعتَ إليه من موسيقى و نوعيتها، فإذا كان ذوقك مرتفعاً فلن تطرب لِما هو أقل و العكس صحيح؛ لعل هذا يتضح مع حالة الموسيقى الشعبية التي تنبع من غناء الإنسان البسيط والغريزة الاجتماعية التي تُكوّنها قد يطرب الإنسان معها وقد لا يصل للحالة الطربية مع أعظم الموسيقات الأوبرالية العظيمة وقد يكون العكس للعامِلَيْن اللّذين ذكرتُهما، فالطرب حالة شعورية تتصل بالإنسان بغض النظر عن نوع الموسيقى التي يستمعُ إليها و ليست مرتبطة فقط بالموسيقى العربية.
يقول ماكس فيبر في كتابه (الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقى) في إشارة منه إلى تحول فنّ الموسيقى:» مع تطور الموسيقى إلى فنٍّ دائم، سواء كان كهنوتيًّا أم دنيويًّا، يبدأ لانطلاقه فوق الاستخدام الهادف عمليًّا صرفًا لمعادلات صوتٍ تقليديّة، أي لإيقاظ حاجات جمالية صِرفة، بشكل نظامي له عقلنته الخاصة به..». هل عملية التحول التي أدت لانحسارِ الغناء الأوبرالي الذي كان سائدًا بقوة في القرن التاسع عشر مع ظهور أنواع جديدة من الموسيقى يُعدّ امتداداً طبيعيًّا لتحولات طبيعية تحدث في فن الموسيقى خلال عصور ماضية؟
في أوروبا كانت الموسيقى خلال فترة ما داخل الكنيسة فقط ويحرم تعلّمها خارج الكنيسة، الموسيقي في تلك الفترة كان يؤديها كعمل وظيفي يُمارسه وينتهي منها وليس من أجل الموسيقى كفن وإن كان في بعض الأوقات يمارسها لأجل الموسيقى نفسها ولأجل جمالها وروحانيتها، ودائماً الموسيقى الأجمل هي التي تكون من داخل أعماق المُؤلِّف أتت متحرّرة من فكرة أو تحمل رسالة، الناس عادة يحبون الموسيقى التي تحمل فكرة ما أو رسالة ما أو قضية ما أو أي موضوع ما؛ لكن برأيي أن الموسيقى الأجمل هي التي تكون نتيجة إلهام و لذا أُحب أن أكون قناة نقية تمرُّ من خلالي الأصوات في هذا الكون ونقاء تلك القناة لا يكون إلّا بعلُوّ المستوى الفكري و الوجداني و الروحي و العقلي لأن ذلك الإلهام الذي يمر من خلالها هو الأطهر والأنبل لأنها لا تحمل موقفاً أو فكرة ما.
بالنسبة للأوبرا انحسرت نظراً للظروف والسياقات الاجتماعية و السياسية التي حدثت بأوروبا. بعد حدوث الثورات وصعود الحُكم الجمهوري في العديد من الدول، تغلغلت الرأسمالية بصورة عميقة في الموسيقى ولم يعد هناك الإنفاق على موسيقى الأوبرا كما كان يحدث سابقاً من قِبل العصور الملكية بأوروبا؛ لأنها لم تعد تدرُّ أموالاً كما تفعل الموسيقى الاستهلاكية التي صعدت مع صعود الحكم الجمهوري فبالتالي أدى إلى صعود الدعم لتلك الموسيقى الاستهلاكية وتسويقها في مقابل نزول الدعم لموسيقى الأوبرا التي ترتبط عادة بالنخبة، باستثناء المتاحف والغاليريات التي استطاعت أن تُسيّر ذاتها بموارد ذاتية عن طريق دخولها اللعبة الاقتصادية والاستثمارية المتمثلة في بيع اللوحات بأسعار ثمينة جداً.
وطبيعة الحياة هي التحولات الدائمة؛ لكننا اليوم نشهد تحولات سريعة جدا ومخيفة في الوقت نفسه على كافة المستويات، وما زلنا في بدايتها ولا نعلم إلى أين سينتهي بنا المطاف!
على الرغم من ذلك التقدم الهائل السريع لاسيما على المستوى التقني؛ إلا أنه يرافقه تفريغ الفكر من مضامينه و تسطيحه وجعل الناس تابعين، تلكم التحولات الحالية الهائلة بلا شك تنعكس على الفنون والأنماط الموسيقية كافة بما فيها الأوبرا نفسها التي دخلت عليها شيء من الموسيقى التجريبية المعاصرة. ومن المؤسف أيضاً أنها ساهمت سلبيا في ظهور أنماط موسيقية غريبة تدمّر الإنسان و لا تعمّره تكمن خطورتها بأنها تضرب أمواجها الصوتية على أجزاء من الدماغ تماماً كما تفعل المواد المخدرة؛ لذا لا بد من العمل لمواجهة تلك الأنماط الموسيقية بترسيخ الموسيقى التي تعمر الإنسان و تهذّب روحه وكلما شاع ذلك النوع من الموسيقى ارتفع وعي الإنسان، ولعلّي أذكر هنا في هذا السياق أن أصحاب المال الحقيقي في هذا العالم والعقول المُسيّرةِ لهذا العالم لا تسمع إلا الموسيقى الكلاسيكية ويزرعون تذوقها في أبنائهم منذ الصغر؛ لأنها انعكاس لوعيهم العميق بماهية الموسيقى ودورها.
في النهاية، على الرغم من تلكم التحولات الهائلة التي أعيها جيدا لا أزال مستمرة في طريقي وأؤمن أن الصوت القادم للموسيقى إلى العالم سيكون من الشرق ومن العالم العربي تحديداً وذكرت هذا في إحدى محاضراتي في أوروبا؛ لأن الموسيقى في أوروبا اُستهلكت وتطورت إلى آفاق واسعة جداً لدرجة وصولهم للموسيقى التجريبية، بينما المادة الموسيقية في العالم العربي لا تزال خامًا متمثلة في التراث الشفهي الموجود على امتداد العالم العربي ولم يُستغل بعد الاستغلال الأمثل.
كتبت على إحدى صفحاتك:
... أحتفلُ بأغنية لم أسمع صدى خطوطها الملونة»
إلا بأحلامي الموسيقية
حيث الأوركسترا تحتفل بأصوات ملتمعة
تخترق العوالم المتوازية
وتسافر أبعد..
حيث يتماوج طنين الأزمنة
ويعبر بقلبي إلى لحظتي الممتدة عبر الريح..»
بعد ترحال صوتكِ إلى أماكن عديدة حول العالم هل استمعتِ إلى أغنيتكِ في الواقع بعيداً عن تلكم الأحلام، أم أنكِ ستظلين في ترحال دائم إلى الأبد للبحث عنها؟
- لحظة كتابتي لهذا المقطع كنتُ أُسجّلُ أحد الأعمال الأوركسترالية السيمفيونيّة، وأستمع لأصوات أحلام أعمالي الموسيقية القادمة التي تنسابُ إليّ في أعماقي، دائما أدعو الله أن ينساب ذلك الإلهام الدائم فيّ وأن أسمع تلك الأصوات دائما وأن أظلّ في ترحال دائم و أجمل شيء أن يكون المرء وراء هذا المُطلق ويسير دائماً في مسار الحياة بمتعتها و تناقضاتها؛ لأن الوصول يعني التوقف و التوقف هو الموت. و أؤمنُ أن الصوت له دور فعّال و خطير في هذا الكون ينتقل و يسافر؛ لذا على كل موسيقي أن ينتبه و يهتم بذلك الصوت الذي يسافر و يؤثر إلى الأبد كما هو مُثبت حقيقة في الفيزياء و ليس رمزيًّا فحسب.
كيف تصفين اللحظة الثقافية الراهنة في العالم العربي؟
- الوضع للأسف في حالة تفكّك وأصبحنا أشبه بالجُزر المتفرّقة، آمل أن تُمدّ جسُور التفاعل الحيّ بينها ليخلقوا حالة ناهضة عامة على كافة المستويات.
وللأسف وسط هذا التفكك هناك الإسفاف الاستهلاكي الذي يشمل القطاعات كافة من ضمنها الموسيقى والأمَرّ أن هناك مؤسسات تُموّلُ ذلك الإسفاف وتستفيد منه وبالمناسبة هذه الحالة ليست محصورة في العالم العربي فقط إنما في العالم كله، لكنني بما أنني معنية بالعالم العربي بحكم انتمائي له لا بد من حماية الثقافة الجادة و الفنّ الرفيع و تعزيز حضورهما حتى نسهم في إزاحة ذلك الإسفاف أو على الأقل يكون هناك حالة توازن في ألّا تطغى بعض الأنماط الموسيقية على حساب أخرى أكثر أهمية ذات منطلق حضاري.
وعلى المستوى الفردي للمثقف أو المبدع العربي برأيي أثبت ذاته على الرغم من كل ذلك التفكك. و الأمل يبقى دائماً في كل فرد في مجاله بأن يبذل الجهد من أجل الإسهام في الرقي لأمة تتطلع للنهضة.
في أغنيتِك «راس السنة» من يتأمل أجواءها يجد أنها محاولة للاقتراب أكثر للذائقة الموسيقية السائدة في العالم العربي ويتضح ذلك بدءًا من كلماتها التي كتبتها الشاعرة سهام الشعشاع التي تعد تجربتها أكثر في الذائقة الموسيقية السائدة في العالم العربي، كيف تصفين تلك المحاولة و هل نجحتِ في ذلك الاقتراب؟
- هذه الأغنية أُحبّها، عندما تعاونت مع الشاعرة سهام الشعشاع قصدت أن أقدّم عملا فيه العمق العاطفي وبكلمات سهلة لتصل للمستمع العربي وحاولت قدر الإمكان أن أسهّل موسيقاها للمستمع بالرغم من تركيبتها الموسيقية الصعبة، فمطلعها يبدأ سهلا ثم يتنقّل الصوت، وهي ذات توزيع أوركسترالي مركّب جدا وأبعاد صوتية غنائية واسعة مع لحن قريب للمستمع العربي وغناء عاطفي جداً، وفحوى كلماتها قصة تُحاكي أي امرأة لم يأتها الحُب و يُطل عليها رأس السنة وتظل وحدها.
صُوّرت كفيديو كليب وعُرضت على التلفزيونات العربية بلا استثناء ونجحتُ في هذه الخطوة وحققت أكثر من مليون ونصف مشاهدة على اليوتيوب وأكثر من 27 مليون مشاهدة على الفيسبوك في أسابيعها الأولى. هذه الخطوة عملتها وقصدتها لأنه من واجبي أن أمدّ جسراً مع المستمع العربي بأنني أخذت ما هو سهل إلى توزيع أوركسترالي ذات أبعاد غنائية و مساحات صوتية واسعة وصلت للمستمع العربي.
من يتأملُ حال الصناعة الموسيقية في لبنان يجد أنها تتأثر أحياناً بصورة غير مباشرة بحالات التشظي السياسي التي تظهر في المشهد السياسي اللبناني من حين إلى آخر، هل يمكن أن تنأى الموسيقى عن ذلك التأثر؟
- الموسيقى العظيمة تنأى عن التأثر إن كان على مستوى المؤلفين مثل بشارة الخوري وعبدالله المصري هؤلاء لا يتأثرون لكن ربما يتأثرون عندما يتخذون موقفاً وطنيا معينا أو عند كتابة حالة تاريخية لها علاقة بالوطن ككل. وليس باللعبة السياسية ودهاليزها و تحولاتها. لكن الموسيقى الاستهلاكية القائمة على الربحية والتجارة هذه بلا شك تتأثر بالسياسة ودهاليزها لأنهما أصلاً وجهان لعملة الابتذال و تحريك الغرائز ليكسبوا من وراءها وللأسف أنهم يبنون أمجادهم على جرّ الناس لما هو أسوأ.
لديكم تجربة في تأليف المناهج الموسيقية للمدارس العامة في لبنان، كيف تصفين تلكم التجربة، وهل من الممكن مستقبلاً أن ترفدي المكتبة العربية كتباً تتناول الموسيقى ونظرياتها تستهدفُ من يريد تعلم الموسيقى؟
- ألّفتُ المناهج الموسيقية للمدارس وأشرفتُ على إعدادِ وتدريب الأساتذة الذين قاموا بتدريس تلك المناهج. وعلى دور معلمي الموسيقى التي تقوم بتخريج معلمي المدارس. بعدها بأعوام عملت تجربة كورال الأطفال في مجموعة من المدارس التي أدخلنا فيها تعليم الموسيقى بصورة متطورة وجاءت النتائج مذهلة ورائعة في تطور التلاميذ ليس في الموسيقى فحسب إنما في كل العلوم، وأتت لجنة من الولايات المتحدة وأشادت في تقريرها بتلكم المدارس وتميزها بسبب البرنامج الموسيقي الذي أدخلناه فيها.
بناءً على تلك التجارب بصدد تأليف مناهج جديدة و أتمنى أن تُعمّم على أكثر من بلد عربي وفي نفس الوقت على كتب تكون تعليمية للمتخصصين وأخرى لغير المتخصصين؛ لأن الموسيقى سرّ ومعظم الناس تجهله، وستكون متصلة بمشروع الأكاديمية التي أعمل على إنشاءها قريباً - بإذن الله.
ما هي مشاريعك الموسيقية المستقبلية؟ وهل هناك عودة لإحياء حفل موسيقي في المملكة؟
- منذ أن بدأت جائحة كورونا التي فرضت ظروفها علينا، بدأت أشتغل على التواصل الإنساني عن بعد؛ لذا كانت الشراكة مع مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون وعملنا على بث أمسيات مباشرة عبر منصة البث المباشر لمجموعة أبوظبي للثقافة والفنون وعبر صفحتي على الفيسبوك واليوتيوب وصدر عنها العمل الموسيقي الابتهالي «الله يا الله»، من كلمات الشاعر عبدالعزيز خوجة، كان مرتجلاً أثناء إحدى أمسيات البث المباشر ووُضع على اليوتيوب وسيكون لدي عمل سيمفيوني ضخم بصيغة أوركسترالية وكورال يؤرخ زمن الكورونا الذي نعيش فيه.
ولدي أكثر من عمل منها ألبوم: «صوتي السماء» وأعمال سمفونية أخرى ستصدر قريباً وسأُحيي حفلتين هذا العام. بالإضافة إلى أنني بصدد تصوير مجموعة من الأغاني التي ستُطلق في التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، أحاول قدر الإمكان أن أُوازن بين العمل الموسيقي العميق الصعب والأعمال الموسيقية التي تصل للناس بسهولة، كما أن لدي عمل موسيقي ضخم بصدد كتابته قريباً.
بالنسبة لإحياء حفلة موسيقية في الرياض هناك تواصل مع الجهات المعنيّة بالمملكة، أودّ أن أُعيد تجربة الحفل الموسيقي الذي أُقيم بالرياض لأنها كانت رائعة ومن أجمل الحفلات التي أقمتها في حياتي « التحضير لها لم يكن سهلًا بسبب عامل الوقت ، استطعتُ ا ن اُ حضّر لها في ظرف ا سبوعين ا و ا قل تقريباً ؛ لا ن التحضير لحفل ا وبرالي و ا وركسترا موسيقية ضخمة يا خذ وقتا و جهدا وفي حالة حفلي السابق في الرياض فقد اُ علن عنها قبلها با سبوع .
تفاجا تُ بالحضور الذي قارب شخص امتلا ت بهم القاعة . نصف فريقي من ا وروبا تفاجا بذلك الحضور ا يضا و كان من ا جمل الحضور الذين واجهناهم وهذا ليس را يي ا نا فحسب بل را ي كل الفريق الذي كان معي ا يضا. و ا تذكر قبل الحفلة هبّت عاصفة رملية على الرياض و لا نني مصابة بالربو واجهتُ صعوبة في بداية الا مر على المسرح ؛ لكن كل تلك الصعوبات لم ا هتم بها ؛ لا ن تفاعل الجمهور الراقي و صفق ا يديهم حملني فوق تلك الصعوبات التي كنتُ فيها .
فالرياض قالت كلمتها : « ا ريد الثقافة « ؛ لا ن العمل الموسيقي الذي قدمته ثقافي بحت بالدرجة الا ولى و يكون الا قبال بهذه الجماهيرية على حفل ا وبرالي ، فالرياض قلبت المعادلة و قالت ا يضا كلمة عظيمة بالنسبة لي با ن لديهم توق للثقافة ؛ لذا لدي التوق لا عود ا ليها بحفلات و ا عمال ا خرى.».
ما هي كلمتكِ الا خيرة في هذا اللقاء؟
- ا نا استمتعت بهذا اللقاء العميق ، منذ فترة طويلة لم اُ جرِ مثل هذه اللقاءات ذات الا بعاد المختلفة ، و ا مل ا ن نهتم بالثقافة الجادة حتى قبل التعليم لا ن التعليم ا حيانا يوصل المرء لدرجة الدكتوراة لكنه يبقيه في جهل كارثي .و ا مل في هذا العصر ا ن نحمي ا جيالنا بثقافة حقيقية عميقة و نطورها بالا ضافة للموسيقى لا نها التجريد للثقافة ؛ لنرتقي داي ما با نساننا العربي تحديدًا و نحميه مما هو قادم. ولدي الا مل الكبير بهذا الانفتاح الشامل و الحقيقي الذي يحدث بالمملكة با ن ينعكس ا ثره على المنطقة ككل لا ن المملكة قوة و قطب جاذب يمتد ا ثرها العميق بصورة ا يجابية .