اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
كل شاغل منصب في مؤسسة ما يتعيّن عليه أن يحافظ على أهداف هذه المؤسسة بالشكل الذي يضمن لها النجاح في مهمتها، واستمرار مسيرتها في الاتجاه المرسوم لها، بعيدًا عن الممارسات الارتجالية، والحسابات الخاطئة التي ينزلق إليها البعض منساقًا وراء الرغبات الجامحة والتغييرات الشاطحة.
وكلما كبر حجم المنصب كبرت مسؤوليات شاغله، وزادت عليه الأعباء إلى الحد الذي يجعل أهليته على المحك، وتصرفاته في المعترك على نحو تبرز معه حاجته إلى التحلي بالصفات الإنسانية، وامتلاك المؤهلات القيادية التي تؤهله لشغل المنصب، وتمنحه الحق في أن يتولى تدبير شؤون الآخرين.
وتأسيسًا على ذلك فإن صاحب المنصب بحكم طبيعة عمله، وما يقع عليه من مسؤوليات، ويطلب منه من مهام، لا غنى له عن أن يكون قدوة في ذاته، متصفًا بمكارم الأخلاق؛ إذ إن من لم يكن صالحًا في نفسه يصعب عليه أن يُصلح غيره. ومعرفة النفس وتقويمها مقدَّمان على معرفة وتقويم الآخرين؛ الأمر الذي يتطلب من كل شاغل منصب أن يهذب نفسه عن طريق امتلاك الفضائل الضرورية التي بموجبها يستطيع تهذيب غيره، متخذًا من العفة والنزاهة سبيلاً للسيطرة على هوى نفسه، وصرفها عن ملذاتها، بفضل التمسك بالفضائل التي تكبح جماح شهواته، وتجعل نفسه تتحرك في الاتجاه الذي يجب، وكما يجب، وعلى الحالة التي تجب، جاعلاً من نفسه قدوة ومثلاً يُحتذى في العفة والنزاهة. وقد قال الشاعر:
أقبل على النفس فاستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وقال آخر:
وما منزل اللذات عندي بمنزل
إذا لم أُبجَّل عندها وأُكرم
وقوة حب الشهوات والملذات، التي تتم مقاومتها عن طريق العفة والنزاهة وغيرها من الفضائل، يقابلها على الطرف الآخر قوة غضبية، ينبغي لشاغل المنصب التحكُّم فيها لكي يستفيد من فضائلها، تلك الفضائل التي إن أحسن استعمالها استقامت له الأمور، وجرت على أفضل ما يمكن أن تجري عليه من الاعتدال والوسطية بعيدًا عن الإفراط والتفريط.
وهذه القوة هي التي تدفع الإنسان إلى التطلع نحو أعلى المراتب والرتب؛ إذ تولد لديه الرغبة في التضحية في سبيل الارتقاء في سُلم المجد من خلال التحلي بالإيثار، والحمية المطلوبة، والأنفة المرغوبة، مع احتمال الأذى، والصبر على المكاره، متخذًا من حسن الخلق مرجعية، يرجع إليها في جميع أقواله وأفعاله، كما يحرص دائمًا على الموازنة والمزاوجة بين كبح هوى النفس والقوة الشهوية من جهة، والتحكم في القوة الغضبية من جهة أخرى؛ إذ إن هاتين القوتين إذا ما اعتدلتا في الإنسان بصورة تجعل حركتهما على ما ينبغي من الوسطية والاعتدال تحققت له العدالة التي تمثل قمة الفضائل، وكما قال الشاعر:
إذا نادى الهوى والعقل يومًا
فصوت العقل أولى أن يجابا
وقال آخر:
وأخلاق ذي الفضل معروفة
ببذل الجميل وكف الأذى
وبقدر ما تتوافر لشاغل المنصب فضيلة النفس المطمئنة المميزة العاقلة، التي يقويها العقل الناضج والفكر المتزن، بقدر ما تحصل له الفضائل التي بحصولها يستحق شغل المنصب، وسياسة غيره نتيجة لما يتمتع به من الفضائل النفسية والعقلية والفكرية. أما في حالة غياب هذه الفضائل فيجب أن يسوسه غيره، وأن يتولاه من يقوّم اعوجاجه، ويدبّر أمره.
ومن المعروف أن كل رئيس مؤسسة أو مصلحة يوجد له عدد من المساعدين والمستشارين الذين يساعدونه في إنجاز مهامه، والاضطلاع بمسؤولياته؛ وهو ما يحتم عليه أن يستغل قدراتهم وإمكاناتهم أفضل استغلال، بما يضمن له النجاح في عمله، مع تفويض الصلاحيات بالقدر المناسب تبعًا للواجبات المطلوبة، والوظائف المشغولة، مع الموازنة الدقيقة بين متطلبات المركزية، ودواعي اللامركزية؛ فلا يفرط في الأولى إلى المستوى الذي يجد نفسه يعمل عمل المساعدين، ولا يفرط في الثانية فيترك المساعدين يتطاولون على اختصاصاته، ويحجبون عنه من دونه، بل يسلك مسلكًا وسطًا بين الحالتَيْن في بيئة تجمع بين الأسلوب الرئاسي والأسلوب القيادي على النحو الذي يؤدي إلى انسيابية العمل وسلاسته من أجل إنجاز مهام المؤسسة، وتحقيق أهدافها.
ومن هذا المنطلق يتعيّن على شاغل المنصب أن يهتم بمعرفة الفروق الفردية بين المساعدين لجعل الشخص المناسب في المكان المناسب، كما يحرص على تنمية روح الفريق فيهم، وأن يزرع في نفوسهم حب الإيثار، ومحاربة الأثرة، مع التركيز على تهيئة الظروف الملائمة لتأدية الواجبات، وإنجاز المهام في سبيل خدمة المصلحة العامة، نائيًا بنفسه عن شهواتها ونزواتها، وكل ما يدنسها ويشينها.
ومن أسوأ ما يُبتلى به شاغل المنصب أن تكون وليجته التي تحيط به من النوع المصلحي الذي يلتف حول الرئيس مزينًا له في المكروه، وخادعًا إياه بالتملق والتزلف والنفاق لتحقيق مصالح شخصية على حساب مصلحة العمل. هذه الوليجة تتكون عادة من المنتفعين الذين تربطهم علاقة بشاغل المنصب من داخل المؤسسة، والقاسم المشترك بينهم هو ما يحصلون عليه من مزايا ومنافع نتيجة لتبادل الأدوار، والتناوب في المواقف بطريقة يغلب عليها التدليس والتلبيس لتغطية ما يمارسونه من ممارسات فاسدة، يتظاهرون من خلالها بالولاء للرئيس والانتماء والولاء للمؤسسة، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك.
والوليجة تُطلَق على بطانة صاحب المنصب وخاصته، وأصحاب السر والأولياء والمقربين منه؛ لكونها تحتل أضيق دائرة بالنسبة إليه، ولها خصوصية تميّزها عن غيرها من الحالات المشابهة كالشللية مثلاً، فهي ذات مفهوم ممدد، ونمط خاص، في حين أن الشللية واسعة المفهوم، متعددة الأحوال والأنواع والأشكال.
واتخاذ الوليجة وما في حكمها يُعتبر من الأمور المألوفة من قِبل أصحاب المناصب، ولكن يختلف تأثيرها السلبي من صاحب منصب إلى آخر تبعًا لقوة صاحب المنصب وضعفه، وما يتوافر لديه من الفضائل التي أشرنا إليها؛ إذ إنَّ مقاومة هوى النفس والقوة الشهوية، إضافة إلى التحكم في القوة الغضبية عبر استثمار إيجابياتها، وتحييد سلبياتها، كل ذلك يجعل صاحب المنصب يسيطر على وليجته، ويضعها في مكانها الطبيعي الذي اختاره لها وفقًا لإرادته لا إرادتها.
ومن المظاهر الممعنة في النشاز، والحالات الداعية إلى الاشمئزاز، أن بعض أصحاب المناصب عندما ينتقل من مكان إلى آخر يحاول جاهدًا نقل وليجته معه إلى المكان الجديد دون أن يدرك الانعكاسات السلبية لهذا التصرف على العاملين في المؤسسة التي استقبلته للتو، متوقعة من رئيسها الجديد أن يحافظ على ما قبله من إنجازات ومكتسبات، وأن ينهض بها إلى الأمام معطيًا انطباعًا حسنًا وصورة طيبة عن نفسه وعن الجهة التي يمثلها، بدلاً من أن يكون مضغة على الألسن، ومحلاً للتندر من قِبل منسوبي المؤسسة الذين خاب أملهم بعد أن فقدوا الثقة في مستقبلهم بسبب اقترافات الوليجة، وانحرافات البوصلة عن الطريق الموصلة إلى النتيجة.
والمملكة منذ أن تأسست ممثلة في قيادتها الحازمة والواعية تحرص دائمًا على تكريس الوطنية والمواطنة، وضبط الوحدات الانتمائية الفرعية في إطار الانتماءين الشعبي والوطني بعيدًا عن التعصبات الممقوتة، والتحزبات المرفوضة، والوليجة البغيضة، والشللية الرخيصة. كما أنها تعمل على كل ما من شأنه التوفيق بين الأصالة والمعاصرة في سبيل استقرار الوطن واستمراره وازدهاره، مع التمسك بالفضائل، والأخذ بالأسباب المؤدية إلى ذلك. وما موقفها الحازم والمبدئي من أجل الدفاع عن انتماءاتها الدينية والوطنية والقومية ضد الأطماع والتدخلات الخارجية إلا أحد الشواهد التي تدل على تحمُّل المسؤولية في شكلها المريح، وبذل التضحية في مكانها الصحيح.