سمر المقرن
ككل الأشياء لا بد لها من نقيضين أو حتى رفيقين، ومن سنن الكون أن لكل بياض سواداً ولكل سر علانية ولكل صعود هبوطًا، وهكذا خلق الله من كل شيء زوجين اثنين، وكذلك خلق الله الليل والنهار، وخلق لكل منهما جمالاً يميزه، وخص لكل منهما أُناسًا يعشقونه، يختلفون بطبائعهم وسلوكياتهم وأفكارهم واتجاهاتهم بحسب ميولهم «نهارية» كانت أم «ليلية».. فأهل الليل هم المفكرون والكتاب والشعراء وكل من كانت مشاعره هي وقوده وقلبه هو قائده، فهم أهل الرومانسية وأهل العشق وأهل السهر في مناجاة القمر، هم أصحاب الفكرة والعبرة والشوق، هم مُتعبون من الداخل، جمالهم روحاني وجاذبيتهم تنبع من وجدانهم.
ورغم معاناتهم إلا أنهم يحبون هذا الليل ولا يعيشون إلا فيه، يُتقنون لغة العيون التي تترجمها ابتسامة. الرجال منهم تحبهم النساء ولكن لا يصلحون للارتباط الدائم فهم كمسرحية جميلة تستمتع بجمالها، ولكن لا تنوي أبداً العيش فيها، هم قصيدة عشق خالدة، يكفي أن تقرأها وتبكي على أطراف قرطاسها أو تبدي إعجابك بها، ثم تضعها جانباً وتُكمل حياتك.
ومن عشاق هذا الليل رغم معاناته منه أمير العاشقين العباس بن الأحنف الذي قال فيه بيتين خالدين:
أيها الراقدون حولي أعينوني
على الليل واتركوا الاعتذارا
حدثوني عن النّهار حديثا
أوصفُوه فقد نسيتُ النّهارا
وللعرب ارتباط عميق مع الليل، فهم شعوب عاطفية يلهب الليل مشاعرهم وتنعكس أحداث يومهم على ليلتهم، كما أن اليوم عندهم يبدأ ليلاً فيقولون عن الليلة التي تسبق يوم الخميس -مثلاً- (ليلة الخميس)، وشهورهم تُحسب بالقمر فتقويمهم قمري مرتبط بظهور الهلال واكتمال القمر، وبوصلتهم نجوم الليل فهي الدليل إذا تاه الرُّحل والمسافرون.
أما عشاق النهار، فهم ديناميكيون عمليون أهدافهم واضحة لا يملكون الكثير من الأسرار، أفكارهم محددة وكلماتهم ذات قيمة مادية -ليست بالضرورة مالية- إنما تحكمهم الواقعية، حتى بالحب فإنه مقنن بسنوات معينة من العمر وبأيام معينة من الأسبوع وبساعات معينة من اليوم.
يحبون النتائج ويسلكون أقصر الطرق إليها، يتعاملون مع الأرقام بشكل جيد ويؤمنون بالعقود المكتوبة والإثباتات، أصدقاؤهم قلّة ومعارفهم كُثر، مصالحهم المشروعة مقدسة، وتفانيهم في عملهم أمر محسوم، فلا جهد بلا ثمن والوقت له قيمة ومحترم.
هذه المقاربة التي وصلت إليها بين الليل والنهار، هي من جهة أخرى مقاربة بين العقل والقلب، بين اللين والصلابة، بين الحب والبراغماتية.
لم يحسم التاريخ حتى الآن من الأفضل، ولكن الواقع يقول بأن البشرية بحاجة للصنفين، كحاجة الناس لليل والنهار!