د.فهد نايف الطريسي
ظل احتكار متخصصي كليات الشريعة للقضاء مسألة تحتاج للفحص وإعادة النظر. المسألة لا تتعلق بصراع ساذج بين خريجي القانون وخريجي الشريعة من باب التدافع السلبي بين أولئك وهؤلاء؛ إنما الأجدى هو السؤال عن المصالح المتوخاة للأمة. فهذا هو السؤال الذي يجب دومًا أن يكون معيار كل قرار تتخذه الدولة؛ ليكون له تبريرات مقبولة شعبيًّا.
والإجابة عن هذا السؤال هو أن لكل مرحلة من مراحل تطورنا حاجاتها الخاصة بها. فمثلاً في ظل الطبيعة البسيطة للدعاوى القضائية، كدعاوى الطلاق والنفقات والقضايا الجزائية التقليدية، كالقتل والسرقة... إلخ، كان من الطبيعي أن يكون للقضاء الشرعي سطوته المطلقة على القضاء.
أما اليوم فالمسألة أصبحت أكثر تعقيدًا في ظل التطور الإنساني وتعقيداته الحياتية؛ ومن ثَمّ تطورت المنازعات القضائية (جزائية، مدنية، إدارية)... وأصبحت هناك جرائم رقمية، وجرائم منظمة، وجرائم عابرة للقارات، استدعت - مثلاً - تغييرات مهولة في مبادئ العدالة الجنائية، وعلى المستوى المدني؛ فالأمر أضحى شديد التعقيد في ظل تطور المعاملات الإنسانية الخاصة، كالتجارة الدولية والتجارة الرقمية وظهور القضاء ذي الطبيعة الخاصة (التحكيم)، والقضاء المتخصص كالقضاء في المنازعات الاقتصادية، كمنازعات سوق الأوراق المالية، ومنازعات التجارة الدولية بصيغها المختلفة، والمسائل البحرية، واندماج المؤسسات الاقتصادية الكبرى أو تصفيتها... إلخ.
ولا يمكن هنا الاعتماد على القضاء الشرعي فقط، بل لا بد من قضاة تعمقوا من حيث الدراسة والعلم في مبادئ القانون التي انبثقت عن هذه التطورات.
فحتى على مستوى استنباط الحكم الشرعي لا بد للمجتهد أن ينال باعًا من المعرفة في مثل هذه العلوم والمعارف؛ ليتمكن من استنباط الحكم الشرعي الصحيح والسليم بغير إفراط ولا تفريط.
لذلك نحن نثمّن ما انتهى إليه مجلس الشورى، ولكننا على العكس مما ذهب إليه تعديل المادة الـ(31)، نرى أن يتم اشتراط حصول خريجي الشريعة على دراسات حول الأنظمة القانونية الحديثة، وليس العكس. فهذا هو الأكثر منطقية، وأن يقتصر دورهم على الفتوى وليس القضاء.وليس هذا تشددًا، إنما هو حقيقة موضوعية، تتغياها المصلحة العامة. إننا كقانونيين نذكر الجدل الفقهي الدولي الذي دار قبل عقود ثلاثة حول اختلاط القرارات ذات الصبغة غير القضائية بالقرارات القضائية، التي اعتبرها الفقه ماسة بمبادئ ذات طبيعة دستورية والفصل بين السلطات؛ وهو ما دعا الدول إلى تصحيح هذه التشوهات، ثم انتقلت هذه الإصلاحات القانونية إلى الدول العربية، دولة تلو الأخرى. للأسف، لم تنشأ هذه المشكلة لدينا لهذا السبب، وإنما لأن القضاء الشرعي لم يكن يملك الخبرة الكافية بالعديد من المسائل القانونية المحضة؛ فاضطر ذلك إلى معالجات مثيرة للجدل، مثل اللجان شبه القضائية التي تتحصن من الرقابة القضائية. فهذه اللجان أُنشئت لوضع حلول لا يمكن معالجتها بالكليات الشرعية نسبة لدقتها وفنياتها وتخصصها؛ وهو ما خلق وضعًا تتوازى فيه المؤسسات مختلفة التأسيس على نحو شاذ.
لذلك لا نغالي إن قلنا إن هناك ضرورة ملحة وقصوى بإعادة الأمور إلى نصابها؛ وذلك لأن الحقبة القادمة من التطوير في كل مناحي الحياة في المملكة ستستدعي - بدون شك - إعادة الهيكلة النظامية والإدارية للقضاء بما يواكب الدولة العصرية التي تهدف لها قيادتنا.