حمّاد السالمي
* يا سبحان الله. مات القذافي، وما ماتت صورته المشوّشة، وسيرته المعقدة، الخالية من أي دلالة على فهم أو سياسة أو قيادة عند: (العقيد القائد.. زعيم الفاتح من سبتمبر.. صاحب النظرية الثالثة والكتاب الأخضر.. رئيس مجلس قيادة الثورة.. رئيس الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى)..!
* مات القذافي؛ وترك إرثًا ثقيلًا من الفضائح الموثقة بالصوت والصورة، مسجلًا بذلك سابقة تاريخية، وكأنه يقول: (لم أكن وحدي في الخيانة والتآمر، فمعي من كل بلد عربي رهط من الخونة والمتآمرين). من أجل حلم الزعامة القومية، وتحقيق الوحدة الهلامية، وبدافع الأحقاد والضغائن؛ رخّص العقيد نفسه، ونزل إلى أسفل سافلين، في علاقاته مع المارقين والسفلة وخائني الأوطان، من رموز الإخوان المفسدين في دول الخليج ومصر وتونس وبلاد المغرب كافة. بل وَثَق بنظام الحمدين في قطر، الذي استخدمه، ثم استدرجه لهلاكه في آخر المطاف.
* كان القذافي مهووسًا بالزعامة، حتى أنه إذا حضر مؤتمرًا عربيًا نصّب نفسه الرئيس والمتحدث المفوّه. ونتذكر كيف أخرسه وأسكته (الملك عبد الله بن عبد العزيز) - رحمه الله - في مؤتمر عربي في شرم الشيخ صائفة عام 2003م، وكان وقتها وليًا للعهد، عندما تطاول القذافي على المملكة وشعبها والملك فهد - رحمه الله -. بعدها زادت أحقاد القذافي، وتضاعفت أضغانه على المملكة؛ فراح يستعين بأمير قطر حمد بن خليفة، أسير جماعة الإخوان المفسدين؛ لكي يتقرب أكثر ممن يصفون أنفسهم بمعارضين سعوديين، وبأعضاء جماعة الإخوان المفسدين، والسروريين، والحزبيين من السعوديين، وتحقق له ذلك، وظهرت تسجيلات صورية صوتية؛ تثبت حجم التآمر والكره والعداء الذي كان يُدبّر ضد المملكة من الإخوان وقطر والقذافي.
* لم تكن المملكة وحدها على أجندة العداء القذافي ومن تقاذف معه. كل دولة عربية وقفت ضد عربدات القذافي تحت شعار الوحدة والفضاءات العربية تعرضت للأذى والمؤامرات. الكويت، ومصر، والعراق، والجزائر، والمغرب، ثم تونس. تونس الجارة ذاقت الأمرين من هذه العربدات والمؤامرات. في العام 1972م زار القذافي تونس الجارة، وطلب أن يتحدث في البرلمان. راح يُنظِّر عن الوحدة ويهذي، حتى ضاق منه الرئيس الراحل المجاهد (الحبيب بورقيبة - أبو تونس)، الذي أخذ (المايك)، ووبّخه، ولقنه درسًا ليس ككل درس. قال له ما معناه: أنت صغير على هذا الطرح، ليس عندك فهم في السياسة كيف تُدار، وأي وحدة تتحدث عنها وجمال عبد الناصر لم يجنِ من ورائها إلا الوبال والدمار؟ غضب القذافي، وخرج مغادرًا فورًا إلى ليبيا، فظل يكيد للحبيب بورقيبة وتونس دون كلل أو ملل. ففي سنة 1980م دبّر حادث العدوان على مدينة قفصة التونسية مع متمردين من إخوان تونس، ثم ارتد وانسحب بقوة التونسيين وتدخُّل فرنسا. وفي صائفة 1987م في يوم (عيد الأضحى)، في شهر أغسطس، نفّذ إرهابيون من جماعة النهضة تفجيرات في نزلات للسكن السياحي في سوسة بدعم من القذافي. كان هذا آخر عام للحبيب بورقيبة في رئاسة تونس.
* في أيام تفجيرات سوسة التي وقعت يوم (عيد الأضحى) كنت أسكن في واحد من نزلاتها على البحر. وكنتُ معتادًا على التنقل بسيارة (كرهبا) أكريها من المطار بين تونس العاصمة والمدن الأخرى مثل: (الحمّامات - سليمان - قربص - سوسة - القيروان - المهدية - المنستير)، وغيرها. عندما وقع التفجير خرجنا فزعين من النزل، وكان الوقت صباحًا، والسياح كلهم من أوروبا إلا أنا وقليلاً من الليبيين. تحركت باتجاه تونس العاصمة، وتوجهت إلى نزل كبير على الشط في قرطاج بين سيدي بو سعيد وحلق الواد. وصلت قبيل الظهر، وأخذت غرفة، وبعد قيلولة لم تطل هبطت إلى المطعم، وطلبت المأكلة، إلا أني رأيت النوادل ينظرون إلي بشذر، ويتهامسون فيما بينهم. كلما طال انتظاري طلبت التعجيل، إلا أن الكل أخذ يقول لي: (ما نسربوش). لم أفهمها، ولم أدرِ ما أصنع، من كان في الاستقبال وقت وصولي انتهت ورديته على ما يبدو، والكل يعاملني بجفاء. الأوروبيون أمامي يشربون ويأكلون، وأنا جوعان عطشان على نظام (ما نسربوش)..! اتصلت هاتفيًّا بصديقي (البشير السالمي) نزيل المنزه السادس القريب من قرطاج، وهو أديب وكاتب، وأحد رموز حزب بورقيبة. جاء على وجه السرعة، وذهبنا سوية إلى الاستقبال، لكنهم أخذوه جانبًا، فإذا هو عائد إلي يضحك ويقول: لا بد أن تحلق هذا الشعر الأقرط أولًا..! ماذا يا بشير..؟ قال: شكلك يبدو للكل وكأنك ليبي، والكل أخذوا موقفًا سلبيًّا من إخوتنا الليبيين من الصباح، حتى أن بعض الليبيين أُجبر على مغادرة هذا النزل قبلك بسبب التفجيرات اليوم. الشعب التونسي يحب بلده، ويكره القذافي المعتدي. رائع. بعد ذلك وصل الفهم لبقية النوادل في السكن بأني لست ليبيًّا؛ وعوملت بعد ذلك (كحريف) محترم..! هذه واحدة.
* الثانية: في صائفة السنة التي تلت؛ بعد أن تولى زين العابدين بن علي السلطة؛ كنت عائدًا من تونس إلى المملكة على طائرة تونسية، ووافق ذلك أيام قدوم الحجاج، فما كان على الطائرة إلا حجاج توانسة وأنا، وكانت الرحلة تونس - جدة مباشرة، لكن.. ما إن دخلنا سماء طرابلس الليبية حتى أعلن قائد الطائرة أنه بناءً على طلب السلطات الليبية سوف نهبط إلى مطار طرابلس لساعة أو أقل. هبطنا وليتنا لم نهبط. أول ما شاهدت في المطار غرف كأنها عشش. وكل من يتحرك هو بلبس عسكري. ما هي إلا دقائق حتى فُتحت أبواب الطائرة، فدخل علينا جنود مدججون بالأسلحة، وتوزعوا أركان الطائرة، وتلاسنوا مع طاقمها بحدة، وراح آخرون يفتشون الركاب وكل خرم في الطائرة، وجيء بالحقائب؛ فنُثرت، وتم تفتيشها، واستغرق كل هذا حوالي ثلاث ساعات. بعد ذلك؛ وبعد أن جفّت دماؤنا؛ سُمح لنا بالمغادرة، وراح القائد يعتذر ويلطف الجو في الجو. ولكن.. هيهات.
* لم أزر ليبيا في حياتي، ولم أفكر في هذا، ومع ذلك ما سلمت من أذى الذي كان زعيمها ورئيسها وقائدها القذافي، فمن ينصفني منه إذن..؟!
* هل يوجد مواطن عربي لم يتأذَّ بسبب طيش ونزق ومؤامرات القذافي..؟