عبدالرحمن الحبيب
في منتصف القرن التاسع عشر خاض الغرب (بريطانيا وفرنسا) حروباً تُعد الأقذر في التاريخ بما عُرف بحرب الأفيون ضد الصين لإرغامها على فتح أسواقها لبضائعه بذريعة تطبيق «مبدأ حرية التجارة»، الآن يشكو الاتحاد الأوروبي من هذا المبدأ نتيجة إغراق أسواقه بالبضائع الصينية رغم قانونيتها وخلوها من الأفيون أو أي نوع من الممنوعات..
بعد سنوات من السعي وراء علاقات اقتصادية ثنائية وثيقة مع الصين، أدرك الأوروبيون فجأة أنهم وقعوا في ورطة الاعتماد الخطير على التجارة والاستثمار الصينيين، وطالبوا حكومة الصين بوقف دعمها للشركات الصينية لأنها تمنحها ميزة غير عادلة ضد المنافسين الأوروبيين؛ وفي نفس الوقت قاموا بحماية الشركات والصناعات الأوروبية الرئيسية من عمليات الاستحواذ الصينية أو ما أطلقوا عليه «الافتراس» الصيني.
إذا كان الأوروبيون فيما مضى استخدموا أسلوباً همجياً لإجبار الصين على فتح أسواقها، فإن الصين تستخدم الأسلوب الناعم المتحضر؛ فقد قدمت الصين المساعدات الطبية لدول الاتحاد الأوروبي المتضررة من جائحة كورونا. لكن رئيس السياسة الخارجية بالاتحاد جوزيب بوريل حذر من وجود «عنصر جيوسياسي يتضمن صراعًا على النفوذ من خلال الغزل وسياسات الكرم... الصين تدفع بقوة رسالة مفادها أنها، على عكس الولايات المتحدة، شريك مسؤول وموثوق».
لذا فإن المساعدات الطبية خلال وباء كورونا يُنظر إليها أوروبياً بعين الريبة، باعتبار الصين تستخدم غطاء أزمة كورونا لمتابعة الصفقات الاقتصادية المثيرة للجدل السياسي مثل خطة سكة حديد بلغراد - بودابست الممولة من الصين والتي تم تمريرها «تهريباً» من خلال الهيئة التشريعية المجرية كجزء من حزمة طوارئ كورونا. كذلك اندهش الأوروبيون من تحذير الصين لهولندا من أن شحنات الإمدادات الطبية الأساسية قد تُحجب رداً على قرار الحكومة الهولندية بتغيير اسم مكتبها الدبلوماسي في تايوان.
حتى قبل ذلك خلال أزمة الديون الأوروبية (2011)، ساعدتهم الصين عبر شراء مليارات اليورو من سندات غير مرغوبة (من اليونان وإيرلندا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا). ذلك ما أثار بعض الأوروبيين بأن الصين تشتري نفوذاً سياسياً في أوروبا، لكن الصين تؤكد أنها تبني علاقات تجارية قوية وتدعم الاقتصاد الأوروبي حتى تتمكن العمليات التجارية من المضي قُدماً بسلاسة.
إذا كانت الصين تُطمئن الاتحاد الأوروبي فإن أمريكا تضغط عليه لاتخاذ موقف متشدد وحظر الأسلحة على الصين، فيما تطالب الأخيرة أوروبا بـ»اتخاذ قرارات مستقلة» عن أمريكا. أما اليابان فأعلنت أنها ضد إزالة القيود المفروضة على الأسلحة إلى الصين مما اعتبرته الصين «موقفاً استفزازياً».
ما هو الموقف الأوروبي حاليًا؟ حسب «ورقة حقائق العلاقات الصينية الأوروبية، 2019» للاتحاد الأوروبي: «الصين شريك تعاوني، وشريك تفاوضي، ومنافس اقتصادي وندّ نظامي. يسعى الاتحاد الأوروبي إلى المشاركة الواقعية والفعالة والمتسقة مع الصين، بناءً على قيمنا ومصالحنا.» لكن بعض مسؤولي الاتحاد يتحدثون عن الصين كمنافس وليس شريكاً، إلا أنهم لم يصلوا لدرجة الطلاق التي يريدها ترامب مع الصين..
ليس طلاقاً، لكن الغزل التجاري الأوروبي للصين انتهى، إذ صعَّد الاتحاد الأوروبي خطابه المناهض لنهج بكين «المتشدد» تجاه الاقتصاد وتغير المناخ وحقوق الإنسان. وزادت برودة العلاقات بعد قمة قادة الاتحاد الأسبوع الماضي الذي خُتم دون بيان مشترك، فيما أبدت رئيسة المفوضية الأوروبية بعض خيمة الأمل من مستوى إصلاحات الصين لتعاملها وتداولها التجاري، فيما يطالب المسؤولون الأوروبيون الصين بإجراء تغييرات جدية أو مواجهة قيود متزايدة.
تعتقد الهيئات الأوروبية (مثل المفوضية الأوروبية ودائرة العمل الخارجي الأوروبية) أن الدول الأعضاء يجب أن تكون أكثر حذراً عند التعاون مع الصين، وأبدى البعض قلقاً من أن عمليات الاستحواذ الصينية للشركات الرئيسية يمكنها تقويض الأمن القومي. هذا النهج ليس مدعومًا من جميع الأعضاء، فالدول الأوروبية ليست على توافق؛ فمثلاً تستعد إيطاليا لتوقيع اتفاقية حول البناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق مع الصين، كما أن دولاً أخرى مثل أغلب دول وسط وشرق أوروبا ترى الصين كشريك وتشكك في التصور الغربي المتزايد للصين كتهديد.
أما مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مارك ليونارد، فيقول: «يحدث تحول في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين، فقد أثارت أزمة كورونا نقاشاً جديداً داخل أوروبا حول الحاجة لتنويع سلسلة التوريد، وبالتالي إلى فك ارتباط منظم من الصين. لن يكون ذلك سهلاً، ولن يحدث بسرعة. ولكن الواضح أن أوروبا تخلت عن طموحها السابق لعلاقة اقتصادية ثنائية أكثر تكاملاً مع الصين».
في تقرير نشر الشهر الماضي، يجادل أندرو سمول من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية بأن مشاركة الاتحاد الأوروبي مع الصين سيكون لها هدف جديد من الآن فصاعدًا: تنظيم العلاقات الصينية الأوروبية بطريقة تقلل من اعتماد أوروبا على التجارة والاستثمار الصينيين. الإجماع الجديد هو أن الأوروبيين يجب أن ينعزلوا عن نزوات الحكومات الأجنبية غير الموثوقة أو المتغطرسة، سواء كانوا في بكين أو واشنطن.
الزبدة، أن الاتحاد الأوروبي سيعيد النظر في الشروط والأحكام القانونية الحالية وسيجري تعديلات هيكلية عليها، بهدف إعطاء الشركات الأوروبية فرصة أفضل للتنافس مع الشركات الصينية.. ويبدو هذا التحول استراتيجيًا لكنه تدريجي فأوروبا تعاني اقتصادياً فيما الاقتصاد والسياسة الأوروبيين ليسا على توافق..