اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
عندما انقضَّ فيروس كورونا على العالم في غفلة في أواخر العام الماضي ومطلع العام الحالي، بينما الناس يغطون في سباتٍ عميق؛ وكان في أشد حالات عنفوانه، فلم يستثنِ أحداً، إذ تسلَّل حتى إلى قلاع الحكم الحصينة وقصور إدارة الدولة في أوروبا وأمريكا، وأصاب النظام الصحي في دول العالم (العظمى) بالشَّلل التَّام؛ فتراكمت الجثث فوق بعضها بعضاً، وعجزت المقابر عن استيعابها، مما أضطر بعض الدول لحرقها أو نقلها بالشاحنات ودفنها خارج المناطق المأهولة بالشيويلات، كإيطاليا مثلاً التي فقدت ثلث مواطنيها بسبب هذا الوباء الفتَّاك. وتبادل الكبار الاتهام بالتآمر على بعضهم بعضاً، وكثر الهرج والمرج، واختلط الحابل بالنابل؛ وحتى اليوم لم يقف العالم على حقيقة واضحة جلية عن كُنْه هذا الفيروس الغادر القاتل، والطريقة التي تسلَّل بها إلى غرف النوم الحصينة وطريقة علاجه واللِّقاح ضدَّه... إلخ.
أقول، عندما احتار الذين يصنفون أنفسهم بـ (الكبار) في طريقة مكافحة هذا الفيروس والعودة بحياة الناس إلى طبيعتها، وتركوا كل مواطن وشأنه بعد أن عمل نظامهم الصحي بأكثر من طاقته القصوى؛ كما تابع الجميع، وتناول محدثكم وآخرون كثر هذا الشأن في مئات المقالات.. عندئذٍ واجهت السعودية وحدها الأمر بإيمان ويقين مقطع النظير، وثقة لا تتزعزع في ربِّ العالمين، فأدركت منذ اللحظة الأولى أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، لأنها دولة رسالة، صاحبة عقيدة واضحة راسخة، فتحمَّلت مسؤولية كل من يستمتع بالعيش الكريم على ثراها الطاهر، حتى من الإخوة المخالفين لنظام الإقامة والعمل أسوة بالمواطنين، وقدَّمت لهم كل ما يحتاجونه من رعاية طبية وغيرها. وقد سبق الحديث عن هذا أيضاً في أكثر من مقال، وهو على كل حال، صار أمراً معلوماً بالضرورة لكل الناس في سائر أصقاع المعمورة، ولا حاجة لإعادته هنا.
ولأن السعودية فعلاً دولة رسالة، غايتها العظمى وهدفها الأسمى خدمة الإنسان والمحافظة على حياته وتحقيق أمنه واستقراره، وتوفير سبل العيش الكريم له، اضطرت هذا العام لركوب الصعب واقتصار الحج على من يرغب من مواطنيها والمقيمين فيها من شتى دول العالم الإسلامي. وكما هو معلوم، في السعودية اليوم مقيمون يسعدون بالعمل والحياة فيها من أكثر من مائة دولة من كل قارات العالم، ولهذا لا بد أن نجد مجموعة من كل دولة من الدول الإسلامية والدول العربية وغيرها يعيشون في السعودية، يمكنهم التقديم لأداء فريضة الحج هذا العام، وهم مطمئنون لعون الله سبحانه وتعالى، ثم مطمئنون من بعد لجاهزية الدولة السعودية للتدخل السريع في أي وقت يحتاج فيه الحجاج إلى رعاية ضرورية بسبب هذا الفيروس، لا سمح الله. وفي تقديري أن الدولة السعودية اضطرت لهذا الأمر لمجموعة من الأسباب الجوهرية، أوجزها في الآتي:
1 - الحرص على عدم تعطل شعائر الحج.
2 - الحرص على سلامة الحجاج من الإصابة بهذا الفيروس، وبالتالي المحافظة على حياتهم، فالثابت الوحيد تقريباً فيما يتعلق بهذا الفيروس حتى اليوم هو أن الاختلاط يُعَدُّ اخطر وسيلة لنقل المرض من شخص لآخر.
3- المحافظة على سلامة مواطني الدول الإسلامية من وصول العدوى لأكبر عدد منهم في حال لم تتخذ الدولة السعودية هذا القرار.
4 - اقتصار الحج على حجاج الداخل يسهل على الدولة السعودية تقديم الرعاية اللازمة لكل حاج، في حال إصابته لا سمح الله، بهذا الفيروس أو غيره من الأمراض، لأنها مسؤولة عن رعايته حتى إن لم يفد إلى الحج ما دام موجوداً على أراضيها.
5 - صحيح أن الدولة السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي اعتمدت مفهوم طب الحشود، وطبَّقته بأعلى المعايير بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء، لكن الظرف اليوم غير عادي، ولهذا لا تريد الدولة للأمور أن تخرج عن السيطرة.
6 - ما زال العالم كله اليوم يعود إلى الحياة بحذر شديد، فإذا فتحت السعودية مطاراتها لحجاج من خارجها، رُبَّما أدى هذا لنقل مزيد من العدوى التي قد تودي بحياة آلاف الحجاج، إن لم يكن الملايين، بل أكثر من هذا، ستزداد وتيرة العدوى في الداخل وفي كل بلاد يفد منها حاج.
7 - ما يتردد في الإعلام عن خروج هذا الوباء عن السيطرة في أكثر من دولة من الدول الإسلامية، خاصة في تلك الدول التي أُصِيْب نظامها الصحي بانهيار تام، لدرجة افتقارها حتى لأدوية بسيطة جداً كخافض الحرارة الذي يُفْتَرض أن يوجد ضمن حقيبة الإسعافات الأولية في كل بيت، حتى في الظروف العادية.
8 - امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، الذي يحب أن تُؤْتَى رُخَصُه كما يكره أن تُؤْتَى معصيته.
وعلى كل حال، يمكن القول إجمالاً إن السعودية لم تلجأ لاتخاذ هذا القرار الصعب إلا طاعة لأمر الله سبحانه وتعالى، الذي أمر بالمحافظة على حياة الإنسان في أكثر من موضع في كتابه الكريم، كما جاء قوله في سورة النساء، الآية 93: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}؛ وقوله عزَّ و جلَّ في سورة المائدة، الآية 32: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}؛ وكذلك قوله عزَّ من قائل في سورة الإسراء، الآية 33: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.
إضافة لما جاء في السُّنَة الشريفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، معلم البشرية الذي أمرنا بعدم دخول البلد الذي يظهر فيه الطاعون، كما أمرنا في الوقت نفسه بعدم الخروج من البلد الذي نقيم فيه إذا نزل به الطاعون؛ وكما هو معلوم للجميع، فالطاعون هو كل وباء أو الموت بسبب الوباء، إذ يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فراراً منه). أمَّا تحذيره عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام لنا من القتل وحثنا على المحافظة على حياة الإنسان، فقد ورد في أحاديث كثيرة، منها على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة)؛ بل اسمعوا هذا الحديث الصحيح الذي تقشعر له الأبدان في قوله صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا، أهون على الله من قتل رجل مسلم)؛ وغير هذا من أحاديث شريفة كثيرة تحض على المحافظة على حياة الناس، وتتوعد من يستهين بها بالعذاب الأليم.
وليس بالضرورة أن يكون القتل بالسيف فحسب، إذ يدخل في هذا قتل النَّفس البريئة بأي شكل، فأنت حين تسمح باحتشاد ثلاثة ملايين من المسلمين في مكان واحد وفي الزمان نفسه، كما يحدث عادة أثناء أداء شعائر الحج، في مثل هذا الوقت الحاسم الذي ينشط فيه هذا الوباء القاتل، تكون قد أسهمت، وإن كان بطريقة غير مباشرة في قتلهم. ولهذا اضطرت السعودية لاقتصار الحج هذا العام على حجاج الداخل فقط من المواطنين والإخوة المقيمين، حفاظاً على أرواح المسلمين، انطلاقاً من مبادئ رسالتها السَّامية العظيمة، مع أنها هي الخاسر الأكبر من عدم وفود حجاج من خارج البلاد كالعادة؛ فالحج كما هو معلوم فيه منافع كثيرة للدولة السعودية، مثل ما فيه من منافع للحجاج. لكن عندما يكون الأمر خياراً بين حياة الناس وبين الربح، فالدولة المسؤولة مثل السعودية لا بد لها أن تختار دون أدنى تفكير حياة الناس، حتى إن أدى هذا إلى خسارة كل ما وهبها الله من خير ورزق وفير، لا سمح الله. وإن كان لي من كلمة أخيرة في ختام هذا المقال، لا بد لي أن أحث الإخوة المواطنين والمقيمين لدينا من الدول الإسلامية والعربية الشقيقة، بل كل مسلم مقيم لدينا أيَّاً كان بلده، التوكل على الله وانتهاز هذه السانحة لأداء فريضة الحج هذا العام، لا سيَّما أولئك الذين لم يسبق لهم الحج من قبل؛ مبتهلاً إلى الله العلي القدير أن ييسر لهم الحج، كما أحثهم على ألاَّ يتهيبوا، فحتى إن لقي أحدهم ربَّه بسبب هذا الوباء في حجه هذا، لا سمح الله، فهو شهيد بشهادة الحبيب رسول الأُمَّة صلى الله عليه وسلم، إذ يقول: (أتاني جبريل بالحمى الطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام؛ فالطاعون شهادة لأُمَّتي، ورحمة لهم، ورجس على الكافرين).. فلنحج، ولنرفع أصواتنا بالتلبية، فإنها من شعائر الحج، حتى إذا فرغنا من أداء مناسكنا عجَّلنا بالرجوع إلى أهلنا، فإن ذلك أعظم لأجرنا؛ كما أكد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.. ولتتذكر أيها الحاج، أنك أحد أربعة مع الغازي والمتزوج والمكاتب حقٌ على الله عونهم. فالحمد لله الذي رضي لهذه الأُمَّة اليسر، وكره لها العسر.. والحمد لله المنعم الوهاب وحده، الذي بفضله وكرمه ورعايته وعنايته لنا نصبح كل يوم معافين في جسدنا، آمنين في سربنا، عندنا قوت يومنا.. وعلى الدنيا العَفَاء. ثم الشكر من بعد لقيادتنا الرشيدة التي لم تدخر وسعاً لكي تظل قافلتنا سائرة تحمل الخيروتنشر النور للعالم أجمع، ولتظل رايتنا عالية خفَّاقة بإذن الله على الأبد.