أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: بمناسبة يوم الجمعة المبارك: فإنني سأعالج مسألة نقد العلية عند بعض الأمم حامداً ربي سبحانه وتعالى القائل: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} 77- 78) سورة يس، وصلوات الله وسلامه وبركاته على عبدالله ورسوله محمد، وعلى جميع النبييين والمرسلين، وعلى جميع من اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين مذكراً نفسي بقولي: إلى بقية عمرك يا أبا عبدالرحمن لعلك تعود إلى نصابك، وإلى كل ملحدٍ عساه أن يؤمن، وإلى كل مؤمنٍ عساه أن يزداد إيماناً مع إيمانه.. ثم اعلموا أيها الأحباب أن معرفتنا البشرية على قسمين: معرفة اضطرارية لا تفتقر إلى برهانٍ؛ وهذه لها ثلاثة مصادر لا رابع لها ألبتة؛ وهي: الحس، وأوائل العقل التي لا تفتقر إلى الحس؛ وهي التي يسميها الإمام (أبو محمد ابن حزم) رحمه الله تعالى (أوائل التمييز)؛ وأما الإلهام (؛ويدخل في ذلك الإشراقة الروحية؛ وهي رؤية القلب؛ أي أن تعتبرها حاسة سادسة)؛ وهذه المعرفة موقوفة على من وجدها، ولا تتعدى إلى الآخرين إلا بالبرهان؛ ولا يبطلها أن هناك من يدعي الإلهام وهو كاذب؛ لأن هناك من يدعي الإلهام وهو صادق.. والقسم الثاني معرفة تكتسب بالبرهان؛ وهذه مصدرها الحس، وأوائل التمييز؛ لأنها تستمد برهانها منهما، أو من أحدهما.. وليس الإلهام مصدراً للمعرفة البرهانية؛ لأن معرفة الملهم خاصة به؛ فلا تتعدى غيره إلا ببرهان؛ ولأن صدق المعرفة الإلهامية متوقف على وقوعها؛ والفرق بين المعرفتين: أن المعرفة الاضطرارية تحصيل لحقيقة الشيئ وحكمه، وأن المعرفة البرهانية تحصيل لحكم ذلك الشيىء بعد العلم بحقيقته.. خذ مثال ذلك: من شرب (السنا): فقد عرف حكم (السنا) وهو الإسهال، وعرف حقيقة الإسهال، ولم يحتج إلى برهان.. ومن لم يشرب (السنا)، ولم يتناول مسهلاً قط، ولم يصب بإسهال قط: فمعرفته البرهانية الاكتسابية(؛ وهي أن (السنا مسهل)؛ إنما ذلك بالوصف لا بالمباشرة؛ ولا تعرف حقيقة الإسهال إلا بذلك.. ومعرفته هذه برهانية يتوصل إليها بالبرهان؛ وهو مشاهدة الأثر والاستدلال به، مع ضرورة صدق الناقل.. والمعرفة البرهانية من ناحية الحكم والتصديق على قسمين: عقلية، وغير عقلية؛ فالعقلية ما أقنع العقل من حس وخبر واستدلال؛ وغير العقلية ما لم يقنع به العقل: من حس خاطىء، وشرعٍ مدسوس، وإشراقة كاذبة.. والمعرفة ابرهانية هي قوانين العقل؛ وقوانين العقل على قسمين: قوانين اضطرارية؛ وهي التي تسمى: (أوائل التمييز)؛ لأنها لا تفتقر إلى الحس.. وأما القوانين الاكتسابية فإنها تستمد خبرتها من الحس كقولنا: (ما كان تصوره حتمياً فوجوده حتمي)؛ فهذا قانون استنبطه العقل بالتجربة الحسية؛ والملاحظ أن قوانين العقل الاكتسابية تستمد برهانها: إما من الحس، وإما من قوانين العقل الاضطرارية.
قال أبو عبد الرحمن: وإذا ذكر لك العقل)؛ والمراد به البرهان لا عموم العقل بملكاته): فالمراد به قوانين الاستدلال الاضطرارية والاكتسابية؛ وإذا ذكر لك الفكر فالمراد به هيأة الاحتكام إلى هذه القوانين، وإذا ذكر لك الذكاء والنباهة والذهن: فالمراد بكل ذلك ملكة الإنسان، وقوة قواه النفسية؛ ولا يحصي معرفة العقل الاكتسابية إلا خالق الخلق ربي سبحانه وتعالى.. ومن مجامع المعارف الاكتسابية الشرع القائم على البراهين المحسوسة، وعلى القوانين الاضطرارية؛ فإن نصوصه باللغة مصدر للبرهان.. ومنها الخبر الذي يثبت به التاريخ والأنساب والحقوق؛ فيستدل العقل من الحس ومن القوانين الاضطرارية على أن الخبر المتواتر حق.. ومنها علم الحساب؛ فهو مصدر للبرهان؛ لأنه ثابت بالحس وبالقوانين الاضطرارية؛ فكانت قواعد الحساب وأصوله مصدراً للبرهان.. وهكذا جميع العلوم والمعارف البشرية. قال أبو عبدالرحمن: وبناءً على أن المعارف إما عقلية، وإما غير عقلية: فإن معارف العقل متنوعة؛ فمنها عقلي بالشرع، وعقلي بالحس، وعقلي باللغة.. وغير العقلي يكون كذلك؛ ويكون غير عقلي لكون الحس كاذباً، أو لكون الشرع مدسوساً، أو لكون فهمنا خاطئاً.. واعلموا أيها الأحباب: بعد ذلك: أن تفكيرنا لم يتطور، ولكنه استراح؛ ذلك أن مجموعةً من السوفيت قالوا في كتاب لهم اسمه: (المادية الديالكتيكية) (إن تفكيرنا تطور)؛ وهذا بناءً على الإعجاز العلمي الذي حققه السوفيت، وهذا التطور يسمونه (الديالكتيك الذاتي)؛ وقد تقول كيف تطور تفكيرنا؟؛ فيقولون: إنه انعكاس للديالكتيك الموضوعي، ويراد بالموضوعي: العالم خارج الذات الحاسة العاقلة..أي (العالم المادي)، ولقد تطورت ظواهر العالم المادي؛ فتطور تفكيرنا تبعاً لذلك؛ وهذا التطور يبنونه على خلفيات (الديالكتيك التاريخي)؛ لأن الإنسان كان قرداً فأصبح مفكراً؛ لأن تطور الديالكتيك الذاتي، والتاريخي، والمادي كان على أنقاض صراع المتناقضات والأضداد؛ فكان البقاء للأصلح، أي: المتطور.. ولا ندري هل سيطبقون هذه الظنون على الحزب الشيوعي السوفيتي أم لا؟ وهل تطورت من اللينينية إلى المادية؟.. وهل تطورت الشيوعية من ماركس إلى لينين؟.. وهل سيفضي صراع المتناقضات إلى ما هو أصلح من الشيوعية وأشد تطوراً؟؟.. كل هذه الظنون علمها عند الله؛ وإنما أريد هنا: أن تفكيرنا في العصر الحديث لم يتطور ولكنه استراح، وأضرب المثال لذلك بعاملين استعملا آلتين بدائيتن كالمعول؛ فهما متكافئتين في قوتهما وصنعهما؛ فاستعمل أحدهما المعول الأول في حفر بئر لم يتجاوز عمقها أكثر من متر؛ لأنه صخور وشظايا، ثم مات العامل، وانكسر المعول؛ فجاء عامل آخر يكافئ العامل السابق في قدرته ومهارته؛ فحفر سبعة أمتار في وقتٍ أوجز، ولم ينكسر المعول، وكانت الأرض هشة؛ فهل نقول: إن المعول تطور، وأن القدرة البشرية تطورت؟.. كلا.. إنما كان العامل الثاني متمماً مسيرة العامل الأول، ولولا ذلك لأنفق ما أنفقه الأول من جهد ووقت وخسارة.
قال أبو عبدالرحمن: وتفكيرنا اليوم لم يتطور بحيث يصل إلى الحقيقة مباشرةً، أو في وقتٍ قصير؛ لأنه تفكير لا يوجد مثله عند الأسلاف؛ وإنما كان تفكيرنا اليوم لا يزيد عن تفكير العباقرة في الأمس.. غاية ما هنالك: أن مفكر الأمس اختصر الطريق بمليون فرض خاطئ، ومليون تجربة غير ناجحة [وهذا على سبيل المعتاد من المبالغة]؛ فاستغنى الفكر الحديث عن اتخاذ هذه المحاولات، وبرهان آخر وهو: أن أعظم مخترع في العصر الحديث لا يقال أنه أذكى العالم إلا بالنسبة لأفراد، أو مادة علم، وليس بالنسبة للأجيال السالفة.. إن أعظم مخترع لآلةٍ، أو أسبق الناس إلى اكتشاف قانونٍ: لا يملك بذلك أنه أذكى من (الخليل بن أحمد)، أو (ابن تيمية)، وإنما الاختلاف في مجال العمل الفكري؛ أما تطور الخلق: فيعني زيادته، وتعدد صوره، والله يزيد في الخلق ما يشاء، ويخلق ما لا نعلم، والله خالق الخلق وما صنعوا.. إلا أن الفكر الحديث لم يخلق المادة، ولم يخلق قوانينها، ولم يرتب النتائج على الأسباب، وإنما اكتشف بإرادة الله سبحانه وتعالى: مادةً مخلوقةً؛ واكتشف قانوناً مخلوقاً، واكتشف علاقات مخلوقة،، وإلى لقاءٍ قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.