د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في الحديث عن مصر القديمة، وتاريخها العريق، ذكر عالم المصريات الشهير وود فورد، جملاً يسيرة في مقطع من إحدى الصفحات يمكن أن يصلح تطبيقه في كل زمان.
فقد كان الاقتصاد المعتمد على القنص، هو السائد لدى السبيليين الذين عاشوا قبل عشرة آلاف عام حتى سنة ستة آلاف عام تقريباً، وكان القنص واللقط هو الحرفة المعروفة لكسب العيش، للأفراد أو جماعات رحل، فهم يقتنصون من الحيوانات التي تتوفر بكثرة في محيطهم، ويلتقطون ما يتساقط من ثمر الأشجار، دون عناء الجني من الأشجار، لكن أمراً ما حدث على مراحل غير ذلك النمط من أساليب الحياة، وغير الإنسان المصري، وغير أسلوب حياته، وأصبح يعيش في مستوطنات محدودة، يتجمع فيها عدد محدود من البشر، لكنهم ظلوا يعتمدون على القنص واللقط في معيشتهم، وفي مصر القديمة بالذات صنعوا لهم عششاً من البوص والطين، وهي المواد المتوفرة بيسر لديهم، على ضفاف نهر النيل، مع بقاء اعتمادهم على القنص واللقط، فلم يتعرفوا، أو يعرفوا الزراعة بعد، هناك جدل حول دخول الزراعة إلى مصر، فهناك من يقول إنها قدمت إليهم من جنوب فلسطين التي لا تبعد عنهم سوى مائة وخمسين كيلومتراً، وهناك من يؤكد أنها قد نشأت في مصر ولاسيما زراعة القمح، محتجين بأن القمح في اللغات السامية القديمة يسمى الحنطة، بينما في مصر يطلق عليه قمحاً، وهي كلمة مصرية قديمة معروفة. أخذ المصريون القدماء في الاستيطان والبناء من البوص والطين في حوالي ثلاثة آلاف وثلاثمائة سنة قبل الميلاد، أي خمسة آلاف وثلاثمائة سنة ونصف من عصرنا هذا، حيث بدأت حضارة تسمى حضارة «جرز».
يقول وود فورد: « نجد عدداً من الأدلة بامتداد معظم الفترة التي يغطيها العصر الحجري الحديث على زيادة عدد السكان، والتوسع ببط، في إقامة المستوطنات لكن المستوى العام للثقافة ظل مستوى تجمع يعتمد على فلاحة بدائية إلى حد ما، ولا يزال مشدوداً بقوة إلى اقتصاد القنص، أي اقتصاد الماضي، الإنسان مفطور على مقاومة التغيير والتجديد، وانبثاق أفكار جديدة، حتى تجبره الظروف القاهرة على مقاومة ظروفه، وكان المناخ في وادي النيل صحياً، والأسماك، وحيوانات القنص متوفرة بصورة زائدة، فلم يستشعر سكان الوادي في ما قبل التاريخ دافعاً قوياً، يحفزهم إلى تحويل اقتصادهم إلى اقتصاد زراعي يقوم على العمل الشاق.
وما قاله وود فورد هو واقع مألوف معلوم عند علماء الاقتصاد والاجتماع، فالإنسان بطبيعته التي لا يحب التغيير إلاّ إذا جاءه ما يجبره على ذلك، لكن الأجمل فيما طرحه، هو المثل العلمي في حقيقة ما قبل التاريخ لبلد تأصلت فيها الحضارة فيما بعد، والحقيقة أن الإنسان عدو ما يجهل، لهذا كانت القفازات الثقافية، في نمط المعيشة، والاختراعات بطيئة جداً في حقبة مضت، وكانت تسير بتدرج ممل، ما عدا ما حدث في مصر من 3300 قبل الميلاد، حيث حدث تطور هائل في غضون ما بين مائتين وخمسين سنة فقط، من مجتمع بدائي بسيط، يتكون من مجاميع بشرية إلى دولة ذات كيان.
عندما كانت البيئة على ضفاف نهر النيل غنية جداً، وأعداد الحيوانات كبيرًا بسبب توفر الماء والمرعى، والأسماك بأنواعها متاحة ويمكن صيدها بسهولة، والطقس جميل والهواء نقي، والبيئة صحية، لم يعد المرء يفكر في تغيير نمط حياته، فهو يعيش في نعيم مقيم إلى أجل، إن صح التعبير، ولم يعد بحاجة إلى اختراع نمط آخر يوفر له قوته، ولهذا فقد تجاهل الزراعة ولاسيما القمح التي ربما وصلت إليه من الشمال، ولا يعبأ بها بشكل كبير، وظل سعيداً بما لديه. في الواقع أن الإنسان لم يتطوركثيراً خلال حقبة طويلة، فقد كان بطيئاً جداً رغم حاجته، ولا أجد تفسيرا لذلك.
قبل مائتين وخمسين عاماً من يومنا هذا، وكما حدث في مصر أخذت طفرة هائلة تظهر، بطلها الإنسان الحديث، فالصناعة بدأت ترسم قواعد جديدة، والعلوم تتدفق من أذهان العلماء، وتسابق البشر على صنع العجائب في المائة سنة الماضية، وهي تسابق الريح بشكل مذهل.
بقي أمر لم يطوره الإنسان منذ آلاف السنين، وهو الاستغناء عن الكراهية، والظلم والجبروت، والاقتتال، ونشر الضغينة، والتحاسد، وعدم التواصل، ولم تتغير قط، رغم معرفة الإنسان بضررها، فهل يا ترى سيصنع الإنسان قفزة أخلاقية، كما استطاع الإبداع في القفزات المادية؟