إبراهيم بن جلال فضلون
هل تنتابك الحيرة حول مستقبلك المهني بعد عنائك في الدراسة وعناء والديك؟ وما إذا كانت شهادتك بلا خبرات أو مهارة لا فائدة منها مستقبلاً؟ وهل تشعر بالقلق على الجيل القادم من أبنائك؟ وما إذا كانوا سيجدون وظائف جيدة يشغلونها أم ستتقلص الفرص والخيارات أمامهم؟.. والجواب: نعم، فأكثر من خُمس الشركات الأمريكية مثلاً وفق منظمة «CBI» التابعة لأصحاب العمل ترى أن السلوك الإيجابي والمهارات الشخصية أكثر أهمية عند التوظيف؛ فأصحاب العمل يبحثون عن أفراد ذوي مهارات متعددة، كالقدرة على سرعة التعلم والإبداع والتميز، والأداء الأفضل من غيره ممن قد تكون لديه شهادة علمية عليا، وقد لا يتفق أسلوبه وطريقته مع أصحاب العمل ممن يهمهم جمع المال فقط، وهو المحرك الرئيس لتلك الآفة التي ستقضي على العديد من المهن. قل مثلاً التحرير الصحفي والإعلامي، فما بالك بالمهن العلمية؟! إذًا لا عيب أن يمارس الطب ساحر أو سباك أو غيره.. فعمالقة المال «بلا شهادات». ولننظر إلى إعلان عمالقة التقنية الذين ما كانوا يصلون لتلك الشهرة لولا العلم والشهادات مثل (ibm - Apple - Google) وغيرهم كثير، وأن أغلب المناصب التقنية والإدارية بلا شهادة جامعية، بل لتكون من بين قائمة شملت أكبر 15 شركة في أمريكا غيّرت سياساتها التوظيفية مؤخرًا نحو الاهتمام بالمهارات على حساب الشهادات..
فماذا سيكون عالمنا المجهول إذا كان بيد حفنة من الجهلة، رأسهم القرار الترامبي في أسوأ لحظات البشرية التي كرمها الله فكانت أول كلمة في القرآن الكريم هي كلمة {اقَرَأْ} في قوله - تعالى - في سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (سورة العلق: 1-5).
وقد جاء بالفعل طغيانه على العلم والعلماء بعدما أفسد في الأرض بقرار ماسوني للحكومة الأمريكية بتفضيل «المهارة» على «الشهادة» في التوظيف الحكومي متباهيًا ترامب: «لن يهمنا من أي جامعة تخرجت، ولا رأي أحد؟ وبالنسبة لي مع القرار كم من شخص في العالم يركض خلف الشهادات وتجميعها وهو لا يملك أي مهارة، وآخر يملكها دون شهادة، ويتوظف الأول». إذًا لتعلن البشرية شهادة وفاة العلم، ولتغلق المدارس والجامعات أبوابها، وليوفَّر المال والجهد والتربية على أولياء الأمور والدول؟.. إنها الطامة الكبرى أن يولى علينا جاهل بالعلم. وهنا أسأل: ماذا كان رد فعل ابن سينا وابن الهيثم ونيوتن وأديسون وعلماء الدنيا إذا سمعوا ذلك؟ وهل كان أجدادنا ذوو الحضارات السابقة سيوافقون على هذه المهاترات؟!! فوالله لسخروا منا ولأمطرونا باللعنات..
فهل بات زمن الألفية الثالثة هو عصر العمل الحر الذي تطغى فيه المهارات على الشهادات، التي تصبح مصدر اعتزاز للوالدين وللتباهي بها، وإن كانت لا تتواءم وحاجات سوق العمل؟ وهذا بحد ذاته يشكِّل جدلية متناقضة لدى هؤلاء، ولدى المجتمع برمته!
ولعل أهم إحدى مشاكل الشباب تندرج تحت ثقافة العيب، وخصوصًا في قضية التعليم والتدريب المهني لا التقني! والأدهى أن المصيبة هنا أكبر من كونها ثقافة «عيب»؛ لأنها ذات صلة بالدخل وسوق العمل ومتطلبات العيش الكريم والناتج المحلي، وعدم مجاراتها متطلبات الألفية التي أصبحت ترفض من لا يمتلك لغة العصر التقنية، وتتطلب مهارات أخرى. فلماذا لا يتم الجمع بين المهارات، وتشجيع حب العلم لتعزيز قدراتهم المهارية في هذه المجالات؛ ليمتلك صاحب الشهادة المخزون المعرفي والذهني من جهة، والمخزون التقني والمهاري من جهة أخرى؟ وهو واجب مفروض على الحكومات التي أفلست فكريًّا لهرولتها لاهثة وراء المال وجمعه..
لقد فضّل الله أمتينا العربية والإسلامية عن غيرهما من الأمم والحضارات بأسبقيتها للعلم والعلوم، فطبقًا لمقولة: «إن غرض العلم والتعلم هو التحكم بعناصر الطبيعة واستغلالها لصالح الإنسان»، فإن «العلم نور، ونور الله لا يؤتَى لعاصٍ»؛ فهو منارة تستهدي بها الأجيال والأجيال المتعاقبة، وبه يزدان الإنسان ليكون أهلاً لخلافة الله على الأرض، بل تتطور به الأمم والمجتمعات، وتنهض، وبالجهل تتخلف وتضمحل، فقد قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: 11).
وكأنني أشعر بأن طريق علمائنا لم ينتهِ، وسنكون كما كنا أمة العلم التي كرمها الله بالإسلام، ليصدق قول ربنا في كتابه الكريم: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)، ولتتناوب الأمم قيادة الأرض، ولكن وعد رب العالمين أن هذه الأمة الإسلامية العظيمة ستظل باقية إلى يوم القيامة؛ قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128). وما نحن إلا بحاجة «لفزعة قلبية علمية»، تبدأ من الأسرة والمجتمع فالدولة عبر التعليم بإعطاء الشق المهاري جل الاهتمام من خلال مواءمة البرامج والخطط الدراسية وآليات التدريس والبيئة التعليمية؛ لأن الهرم التعليمي ترتكز قاعدته على التعليم التقني، غير أنه مقلوب لدينا نتيجة لما أسلفت من ثقافات وممارسات! بل يجب أن يعلم الشباب وأهلوهم أهمية التعليم التقني بجوار الأكاديمي والشهادات لما يفرضه علينا الواقع المعاش، وإلا فلنعلن شهادة وفاة العلم!!