حمّاد السالمي
* إن أجواء جائحة فايروس كورونا (covid-19) ما زالت تخيّم على العالم كله، ويبدو أن وعي المجتمعات واحترازاتها؛ بدأت تؤتي ثمارها، وأن الفايروس سوف ينحسر ثم يتوقف؛ مثله مثل فايروسات كثيرة عرفتها البشرية في حياتها، تطورت وعمّت حتى أصبحت جوائح قاتلة، فأمرضت الملايين، وقتلت الملايين، ولكن في فترات محددة، لتختفي وتصبح جزءًا من التاريخ.
* ومع أن فايروس كورونا وصل إلى قرابة اثني عشر مليونًا من البشر؛ وقتل نصف مليون في ظرف خمسة أشهر؛ إلا أنه لا يقاس بمرض كل العصور منذ أن خُلق أبونا آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. المرض العضال؛ والجائحة الوحيدة التي خلقت مع الإنسان، ولازمت الإنسان، وظلت وسوف تظل معه إلى أبد الآبدين.. ألا وهي جائحة الجوع. الجوع الذي هو مرض لعرض لم تستطع أمة ولا دولة القضاء عليه. الجوع هو نتاج للفقر المولد للقهر، الذي يعصف بملايين الناس في كافة أقطار العالم، ويقتل منهم ألوف الناس كل يوم، وملايينهم كل سنة، دون تدخل من منظمة الصحة العالمية، أو منظمات حقوق الإنسان، أو تلك الدول الغنية التي تتخلص من بعض منتجاتها الزراعية والحيوانية والسمكية في البحار، حتى لا تنخفض أسعارها في السوق.
* يبقى الجوع آفة وعاهة وعاراً في جبين البشرية جمعاء، لأنها لم تلتفت إلى أسباب الفقر بجدية وحزم وإنسانية كما فعلت في زمن كورونا، فالجفاف، والفيضانات، والحروب، والسياسات الفاشلة الفاسدة لعديد الأقطار في أكثر من قارة؛ تزيد من شقاء الإنسان وفقره، ثم جوعه وموته في آخر المطاف. ويكفي أن نعرف؛ أنه كان من آفات المجاعة في النصف الأخير من القرن التاسع الميلادي؛ أن الناس كانوا يقتتلون، ويتغذّى القاتل من لحم المقتول، وكثيرًا ما تركت جثث الموتى على قارعة الطريق لعدم وجود من يواريها في التراب. وكان مستهل القرن الحادي عشر الميلادي عهد مجاعة، زادها فظاعةً؛ تفشي الطاعون، فكان المصابون يُلحدون أحياء مع الموتى، ويقول أحد مؤرِّخي تلك المرحلة: (إن الناس كانت تقتات بالحشرات والحيوانات القذرة ولحم البشر، وكان الأولاد يأكلون آباءهم، والآباء يأكلون أولادهم). ومن سنة 1010م إلى سنة 1029م؛ بلغ الجوع من سكان أوروبا أنهم كانوا يأكلون لحم الكلاب والفئران وجثث الموتى، وكان قطّاع الطرق يكمنون للناس؛ فيقتلونهم، ويقتسمون أعضاءهم للتغذي بها قبل اقتسام الغنيمة، وهذا على خلاف ما قال فارس بني عبس عند العرب:
لِيَ النفوسُ وللطيرِ اللحومُ وَلِلـْ
ـوَحْشِ العظامُ وللخيالةِ السَّلَبُ
* وبلغت بشاعة هذه الآفة؛ أنه كان هناك عصابات تستدرج الأطفال الجياع إلى خارج المنازل، حتى إذا ما تمكنوا منهم؛ ذبحوهم وأكلوهم. قال أحد الرواة: (إن العيشة في الصحراء بين الكواسر الضارية؛ أصبحت في ذلك العهد أكثر أمنًا وطمأنينة منها بين الآدميين الجائعين). وقد بيع لحم البشر علانية في الأسواق. إن تاريخ المجاعات في أوروبا والصين طويل وبشع، فهناك مجاعة تفشت أثناء حرب الثلاثين سنة 1618م- 1648م، قضت على خمسي سكان ألمانيا، ولم تُبْقِ من سكان مقاطعة (اللورين) البالغين 1200000 نسمة إلا 50000 نسمة، وذهب الباقون ضحية الجوع وفظائع المتقاتلين. ومما يروى عن هول تلك المجاعة؛ أن امرأة قتلت طفلاً وقددت لحمه مؤنة لطعامها، وأن طبيبًا دُعي لبتر ذراع أحد الجرحى، فطلب أجرة عن عمله تلك الذراع المبتورة، وأكلها..!
* أما العرب فكثيرًا ما نزلت بهم السنون، وأخذتهم المجاعات، فنالت منهم، يدلنا على ذلك ما في لسانهم من المترادفات الجمّة عن القحط والجدب، وعن الجوع وأنواعه وأطواره وطبقاته: ( جوع- غَرَث- سَغَب- لغَب- خَرَص- خَمَص- طوَى- خَوَى ). إلى غير ما هنالك من المفردات والجمل التي تدل على اعتياد أهل البادية مثل هذه الحال من الفاقة، حتى إنه كثيرًا ما حق لجائعهم أن يقول مع عاشقهم:
إنَّ في بُرْدي جسمًا ناحلاً
لو توكأت عليه لانهدم
أو أن يردد مع مُتَيَّمهم:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترنِ
* ولدينا في هذا الباب؛ أمثلة ونوادر كثيرة، تصوّر حالة العربي ومعايشته للفقر والحاجة ومساسة الجوع. نذكر منها قول ذلك العبد لسيده وقد باعه لسد حاجته:
لحاكَ الله..! هل مثلي يُباع
لكيما تشبع الكَرِشُ الجياع
وهذه حكاية (كلبة حومل)، التي أكلت ذَنَبَها من شدة الجوع، فضرب بها المثل: (أجوع من كلبة حومل). وكذلك حكاية ناقة ذلك الأعرابي التي جاعت فقالوا:
وقد هزلت حتى بدا من هزالها
كُلاها.. وحتى سامها كل مفلس
* على أن ما كان عليه العرب في بداية أمرهم من شظف العيش، والتجافي عن الملاذِّ، والضرب في البر الأفيح، وعلى الأخص سكان البادية، وأهل الوبر منهم، كان مما يقيهم شر المجاعات؛ لأن الهالكين بالجوع على ما قال ابن خلدون في مقدمته: (إنما يقتلهم الشبع المعتاد السابق، لا الجوع الحادث اللاحق). جاء في (العقد الفريد)- ولعله من باب تسلية النفس: (لأمر ما؛ طالت أعمار الرهبان، وصحت أبدان العربان، وما لذلك علّة؛ إلا التخفف من الزاد)..! على أن قناعة العرب؛ سمة مشهورة، فهذه أعرابية تقول:
وأكل كُسَيْرَةٍ في كسر بيتي
أحب إلي من أكل الصنوف
* ويبدو أن المثل: (البس يحب خناقه)؛ قديم وصحيح، ذلك أن بعض الشعوب القديمة؛ لم تخلُ (ميثولوجيتها) من آلهة للمجاعة. فكانت آلهتهم هذه؛ ابنة الليالي السود على شكل امرأة هزيلة الجسم، نحيلة البدن، قد ذهب لحمها، وذاب شحمها، وشحب لونها، فبدت عجفاء جرداء، مقوسة الظهر، بارزة العظام، مسترخية المفاصل، لاصبة الجلد، مجوَّرة الصدغين، غائرة العينين، ممسوحة الثديين، ضامرة البطن، ناسلة الفخذين. وكأن هذا الشبح المخيف؛ لم يكفِ في نظرهم لتمثيل حقيقة المجاعة، فصوروها مغلولة اليدين، رامزين بذلك إلى عجزها عن إصلاح ما بها.
* فزع العالم لجائحة كورونا؛ ونسي أن هناك 821 مليون شخص يعانون اليوم من الجوع، وأكثر من 150 مليون طفل يعانون من التقزّم، وأن الموت يحصد في الصومال وحدها؛ آلاف الأنفس كل يوم. هذا ليس تقليلاً من خطورة كورونا؛ ولكن هناك ما هو أخطر من كورونا.. إنه الجوع.