عبدالرحمن الحبيب
توماس بيكيتي الملقب بـ«ماركس القرن الحادي والعشرين» إثر شهرة كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» رغم أنه لا يوجد فيه طرح ماركسي والمؤلف لا تعجبه الشيوعية لكنه تشابه عنوان كتابيهما. كتاب بيكيتي يعد من أهم كتب الاقتصاد السياسي للقرن الحالي حيث بيع منه نحو 50 مليون نسخة، وحصل على ترتيب 26 بتصنيف الجاردين لأفضل مئة كتاب بالقرن. رغم كل ذلك البريق فقد ظهر مؤخراً لبيكيتي كتاب مغاير بعنوان «رأس المال والأيديولوجيا».
هذا الكتاب الجديد لم يحظ بما ناله الأول من تقدير هائل قدر ما حصل على إثارة ودهشة، لأنه تجاوز جرأة سابقة، مما اعتبره البعض تهوراً فجَّاً، خاصة حلوله السياسية التي تبدو نظريات فكرية مجردة غير قابلة للتطبيق. وكأن التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا أثرت فيه لولا أن النسخة الفرنسية ظهرت في سبتمبر الماضي.. ربما هذه التداعيات أثرت بتوقيت ظهور النسخة الإنجليزية قبل ثلاثة أشهر..
مع تفشي الوباء علت أصوات مفكرين اقتصاديين بعودة سيطرة الحكومة على الاقتصاد والتشكيك في الرأسمالية ونهاية النيوليبرالية وظهور تنظيرات شتى يسارية ويمينية.. «يريد البعض تعديل الدخل بعد حكم السوق (بعد التوزيع)؛ آخرون يريدونه على حصيلة السوق (قبل التوزيع). هناك من يريد رفع الحد الأدنى للأجور وتغيير قوانين مكافحة الاحتكار، أو إصلاح حوكمة الشركات.. ثم هناك الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، الذي يريد إصلاح الرأسمالية متجاوزاً الاعتراف عبر إلغاء الملكية الخاصة الدائمة بالمجمل. «حسب تهكم البروفيسور آرفند سبرامانيان (جامعة هارفرد).
الكتاب الأول سبق عرضه هنا بأربع مقالات حين صدوره بالإنجليزية عام 2014؛ وفيه كشف لسوأت النيوليبرالية وتأصيلها لانعدام المساواة، خلاصته أن معدل النمو الاقتصادي (الدخل والناتج) ضعيف بينما عائدات رأس المال (كأرباح الشركات وبيع الممتلكات والإيجارات العقارية) عال؛ وسيزداد التفاوت بتوزيع الثروة وتتركز لفئة قليلة، لأن عائد الثروة أكبر من عائد العمل؛ مما يثبط الحوافز ويزيد التفاوت الطبقي مهدداً قيم العدالة الاجتماعية والجدارة وتكافؤ الفرص؛ وقد يقوض المجتمعات ما لم يتم فرض المزيد من الضرائب على الأثرياء..
هذه الفكرة المركزية انتقل عنها الكتاب الجديد وهو طويل (أكثر من ألف صفحة) معيداً سرد تاريخ التطور الاقتصادي منذ القِدم، ومركزاً على اتجاهات عدم المساواة للرأسمالية الغربية خلال المئتي عام الماضية، مع نقد حاد للسياسة المعاصرة التي تتميز بتزايد عدم المساواة.. «إذا لم نفعل شيئًا جذريًا للحد من عدم المساواة، فقد تنتصر الشعبوية المعادية للأجانب بصناديق الاقتراع وتبدأ التغييرات التي من شأنها تدمير الاقتصاد العالمي للرأسمالية المفرطة».
مع تحليل مغاير لكل الأطروحات، يقدم الكتاب خطوطاً عريضة لنظرية عدم المساواة باعتبارها ظاهرة سياسية نتجت بسبب صعود أيديولوجية «الملكية الجديدة». فالتغيير المؤسسي يعكس الأيديولوجية التي تهيمن على المجتمع: «عدم المساواة ليس اقتصاديًا ولا تكنولوجيًا. إنها أيديولوجية وسياسية».
إذا كان ماركس ومن بعده أغلب التنظير الاقتصادي يضع الواقع (الاقتصاد الاجتماعي، أنماط الإنتاج، التقنية) كبنية تحتية بينما الأيديولوجيا «بنية فوقية» نتيجة للأولى، فإن بيكيتي يضع الأيديولوجيا والسياسة كأساس مركزي للاقتصاد؛ مما دعا بول كروغمان (حاصل على نوبل للاقتصاد) للقول «توماس بيكيتي يقلب ماركس على رأسه»؛ كناية عن الادعاء الماركسي حول الفلسفة الجدلية لمثالية هيغل، «كانت تمشي على رأسها فجعلها ماركس تمشي على قدميها.» باعتبار أن الواقع يشكل الأفكار وليس العكس.
حسب الكتاب، حدثت التفاوت بالدخل والثروة لأن الناس أرادوا وسمحوا بذلك.. فتلك قناعاتهم الفكرية (أيديولوجيتهم). فإذا كان عدم المساواة ينبع بالمقام الأول من الأيديولوجية، فيتعين على المصلح تغيير الأيديولوجية السائدة. وبما أن عدم المساواة غير شرعي، فذلك يتطلب أيديولوجيات لتبريرها وجعلها شرعية، أما إذا لم يكن هناك ما يبرر عدم المساواة، فلماذا لا نقلصها؟ هذه خلاصة فرضية الكتاب، وهي فكرة أخلاقية أكثر منها عملية.
يكشف بيكيتي أسباب فشل السياسات الحالية نتيجة انهيار سياسات اليمين واليسار: النخبة المالية (نخبة اليمين) تفضل الأسواق الحرة المفتوحة، والنخبة المثقفة (نخبة اليسار) تمثل التنوع الثقافي، لكنها فقدت الثقة في الضرائب التصاعدية كأساس للعدالة الاجتماعية. ويحدد الكتاب هيكل نظام اقتصادي أكثر عدالة، لكن هذه المهمة معقدة للغاية، كما يقول بيكيتي لأن معظم الناخبين ينقسمون الآن لأربعة أجزاء: المعسكر العولمي مقسم بين داعمي المساواة والمضادين لها، وكذلك المعسكر الوطني. نتيجة لذلك، فإن أي حركة للمساواة الاقتصادية يجب أن تشمل الوطنيين والعولميين.
يختمها باقتراحات جريئة اعتبرها البعض أوهاماً وأقل ما يقال عنها أنها غير عملية، طارحاً اشتراكية من نوع جديد «اجتماعية تشاركية»، بوسائل لإعادة توزيع الثروة وتقليص التفاوت الطبقي عبر نظام يقوم على إيديولوجية المساواة والملكية الاجتماعية وميزانية التعليم المتساوية لكل مواطن ومبلغ يوزع عليهم في سن الخامسة والعشرين ليتم استثمارها حسب اختيارهم.. معتمداً بالغالب على ضريبة دخل تصاعدية وضريبة ضخمة على الثروة الموروثة (تصل إلى90 % ضريبة الميراث).. ستكون النتيجة «جعل ملكية رأس المال مؤقتة».. ومن خلال التشريع لفرض تقاسم السلطة داخل الشركات، بين العمال والرؤساء، يمكنك تحقيق «الملكية الاجتماعية الحقيقية لرأس المال». وهذا الجزء هو الأكثر إثارة لدهشة المفكرين والباحثين الذين سنستعرض خلاصة آرائهم بالمقال القادم..