د. محمد بن عبدالله آل عمرو
يبدو أن وهج الشهادات العلمية طغى على حركة التوظيف الحكومي في كثير من بلدان العالم، مقابل إهمال اشتراط امتلاك مستوى معين من المهارات والخبرات المهنية وممارستها على الدوام، الأمر الذي أصبح مرضاً وظيفياً يهدد جودة الإنتاج وكميته، ويؤدي إلى التستر في حجم الموارد البشرية نتيجة زيادة التوظيف لرفع الانتاجية ورفع جودتها.
وما زالت إشكالية أيهما أولاً: الشهادة أم الخبرة، وعدم القدرة على رؤية واضحة حول أولوية إحداهما يعرقل اتخاذ إجراءات جذرية وحازمة لإصلاح منظومة الموارد البشرية في القطاعات الحكومية، ويبدو أن المختصين في إدارة الموارد البشرية قد وصلوا إلى قناعة تريح عقولهم من البقاء في دوامة التفكير التي لا تنتهي للوصول إلى حل لهذه الإشكالية الجدلية، وهذه القناعة تقوم على التعايش مع الوضع القائم من خلال استراتيجية الحصان الميت، ليس كما في أصل هذه الاستراتيجية لدى السكان الأصليين في أمريكا «الهنود الحمر» التي تقول:» إذا اكتشفت أنك تركب حصاناً ميتاً أو على وشك الموت فإن أفضل استراتيجية للتعامل معه هي أن تنزل عنه؛ وإنما في مفهومها وتطبيقاتها لدى المختصين في إدارة الموارد البشرية في بيئات العمل الذين اتبعوا استراتيجيات أخرى للتعامل مع الحصان الميت، وجميع تلك الاستراتيجيات بنيت لمعالجة قصور مؤسسات التعليم والتدريب في إكساب المتعلمين والمتدربين المهارات العملية والتطبيقات المعرفية خلال فترة الدراسة، وكذلك للتغلب على الوهن المهني والنفسي الذي يطرأ على الموظف بعد الحصول على الوظيفة، ومن تلك الاستراتيجيات شراء سوط أقوى لإجبار الحصان على النهوض والحركة، وتغيير الفارس لأهمية فكر القائد في استنهاض الهمة لدى الحصان، وتشكيل لجنة لدراسة حالة الحصان فقد تكون هناك عوامل في بيئة العمل أدت إلى موت الحصان، وغيرها من الاستراتيجيات الكثيرة التي تستهدف نهوض الحصان الميت وإعادته إلى حلبة السباق والمنافسة مع بقية الجياد.
وعلى الرغم من توفر أدوات قياس الكفاءة المهنية والقيادية والنفسية للخيول «الموظفين» قبل استقطابها وتمكينها من دخول حلبة المنافسة والسباق إلا أن إدارات الموارد البشرية غير جادة في إجراء تلك الاختبارات، وإن أجرتها فهي غير جادة في الأخذ بنتائجها لتحسين وتطوير بيئة العمل وإجراءاته في المنظمة، وفي عدم ترك أي ثغرة لاستقطاب وتوظيف خيول ميتة أو واهنة، مهما كانت كفاءة الإصطبلات التي نشأت وتربت فيها تلك الخيول.
وهذا ما تنبه إليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عندما وقع أمراً تنفيذياً بتوجيه تعليمات لفروع الحكومة الفيدرالية بالتركيز على المهارات بدل الشهادات الجامعية في اختيار الموظفين الفيدراليين.
ولا يُفهم من هذا الإجراء التركيز على المهارات فحسب وجعلها بديلاً عن اشتراط حد أدنى من المؤهلات العلمية، فلكل مهارة مهنية أساسها العلمي، ومن غير الممكن بناء المهارات بدون التعرض للخبرات المهنية أثناء فترة الدراسة في المؤسسات التعليمية والتدريبية.
مع ملاحظة أن الحصان الميت قد يكون موظفاً كسولاً كَلاً على المنظمة التي يعمل فيها أينما توجهه لا يأتي بخير، وقد يكون إدارة أو قسماً من الأقسام في المنظمة عبئاً على الهيكل التنظيمي لها، ومعطلاً لديناميكية العمل وانسيابيته وجودته، وقد يكون نظاماً أو تنظيماً أو لائحة أو إجراءات أو تعاميم عفا عليها الزمن وتجاوزتها أهداف المنظمة وغاياتها.
وإن الحاجة إلى توفر الخيول الصحيحة القادرة على دخول حلبات المنافسة والسباق تقود إلى أهمية الإصلاح الشامل للإصطبلات الحاضنة، أقصد المؤسسات التعليمية والتدريبية، والتأكد من أن مدخلاتها من أعضاء هيئة التدريس والتدريب، والأنظمة واللوائح، ليس فيها أحصنة ميتة أو واهنة، وأن المهارات العملية التطبيقية تقدم للطلاب جنباً إلى جنب بكفاءة عالية مع المهارات المعرفية.
وإن الحاجة إلى استقطاب الخيول الصحيحة لأي منظمة تتطلب وجود معايير عالية الجودة للاستقطاب والتوظيف، تعطي للمهارات الجزء الأكبر من الأهمية، فيما تبقى الشهادات العلمية عند مستوى اشتراطات دخول المنافسة.
وإن الحاجة إلى غزارة الإنتاج وارتفاع جودة أداء الخيول في حلبة المنافسة تتطلب تغذية جيدة، وتدريبا جيدا، ومحاسبة دقيقة، ثم استخدام استراتيجية الحصان الميت عند الهنود الحمر للخيول التي لا تستجيب لاستراتيجيات التحفيز بدون تردد، لأن بقاءها يصبح عبئا على المنظمة، وعنصر إفساد وتخذيل لبقية الخيول القوية.
خاتمة لأبي القاسم الشابي:
أُبَارِكُ في الناسِ أهلَ الطموحِ
ومن يستلذ ركوبَ الخطر
هو الكونُ حيٌ يحبُ الحياةَ
ويَحتَقِرُ المَيتَ مهما كَبُر