د. جمال الراوي
تصاحب صديقًا فترة من الزمن، تحمل له المودة والمحبة، وتظنه يبادلك المشاعر نفسها، ثم تفاجأ بمشاعره وقد انقلبت؛ فإذا به يظهر لك الغل والحقد والضغينة، ثم تفتش عن أسباب هذا التحول فتجده يتعلق بحجج سخيفة وواهية؛ يسوغ بها تغيُّر مشاعره تجاهك؛ فتخفق معه كل الوساطات ومحاولات إصلاح ذات البين؛ فتحاول الولوج إلى قلبه؛ لتجده وقد طغت عليه مشاعر الحسد والغيرة التي كانت مكبوتة؛ أخفتها مشاعر المودة الظاهرة، فتنفجر مشاعره الجديدة، وما عاد هناك من سبيل لإخمادها؛ فتصبح ثورة في الغضب والحقد والكراهية والعدوانية.
يقول «سيجموند فرويد» بوجود «ثنائية العواطف» أو «ازدواجية المشاعر» Ambivalence لدى كل إنسان، كالحب والكره مثلاً؛ فالإنسان يحمل هذه الازدواجية في كل مشاعره وعواطفه؛ فهو يحب إنسانًا أو شيئًا ما، لكنه يحمل في الوقت نفسه كرهًا له، ولكن المقادير والشدة متفاوتة بين الحب والكراهية؛ فهو يحب لأن مشاعر الحب أقوى وأعمق في النفس؛ فتطغى على مشاعر الكره.. ودليل «فرويد» على نظريته في ازدواجية العواطف هو ما نلاحظه في انتقال الناس في مشاعرهم تجاه بعضهم، من الحب إلى الكراهية، ومن التعلق إلى النفور، ومن الوداد إلى البغضاء، أو بالعكس. وقد يأخذ هذا التحول شكلاً حادًّا ومفاجئًا أو تدريجيًّا. ويرى «فرويد» أن الكره أو الحب كان مكبوتًا في اللاشعور، وحرض على ظهوره التعرض إلى موقف ما.
لا شك أن الانقلاب المفاجئ في الحب والكراهية ليس شائعًا، لكنه معروف؛ فكم من حب شديد تحول إلى نفور وكره مقيت؟! وكم من علاقة صداقة ومودة تحولت إلى خصام وعداوة؟! وكم من علاقة تجارية وشراكة تبدلت لتتحول إلى القضاء في المحاكم؟! وكم من زواج تطور ليصبح فراقًا وطلاقًا؟! وكم من مديح وإطراء وستر للعيوب تغير وأصبح شتائم وسبابًا وفضحًا للمساوئ؟! وكم من قريب أصبح عدوًّا وخصمًا؛ قرر قطع أواصر الرحم والقرابة؟! وكم من زملاء عمل أو دراسة أصبحوا خصومًا لبعضهم؟! وكم من حالات وفاء وأمانة تحولت لتصبح خداعًا وغشًّا؟!!
لم يستطع «فرويد» أن يعطي تفسيرًا لهذا التحول في مشاعر الإنسان، ولم يفسر سبب هذا التحول المفاجئ!! ولم يشرح سبب هذا التذبذب في عواطف الإنسان!! ولم يقل لنا كيف السبيل حتى يحافظ أحدنا على مشاعره، ويقيها من هذا الانحراف والتبدل!!.. ويبقى السؤال الكبير: هل تموت المشاعر أم إنها تضمحل وتخمد مهما كانت قوتها؟!.. وهل كانت عبئًا على الإنسان، ثم وجد فرصة للفكاك منها، أم إنه تعرض لموقف جعل منه حجة للخلاص منها؟!.. أم إن هذه المشاعر والعواطف كانت تتغذى على وقود خفي، ثم نضب فماتت بنضوبه؟!.. وهل طول فترة هذه المشاعر والعواطف يجعلها مملة؛ لتفقد بريقها بعد أن وصلت مرحلة التخمة والشبع؟!.. وهل يحتاج الإنسان إلى جهد كبير للتخلص منها بعد أن رافقته هذه المشاعر فترة من الزمن، أم إن الأمر يسير وسهل عليه؟
كتب علماء النفس كثيرًا عن الحب، وبعضهم يقول إنه حالة فسيولوجية، وإن له علاقة بموصلات عصبية وهرمونية The neuroendocrinology of love، وبعضهم يقول إن من ورائه هرمون «الاكسيتوسين» Oxytocin الذي يفرز من الفص الخلفي للغدة النخامية، ويستخدم عند حاجة الجسم إليه، وأسموه هرمون الحب؛ لأنهم وجدوا له دورًا كبيرًا في علاقة الأم بطفلها، وفي تقوية العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة، ووجدوا كذلك أن له وظيفة في تقوية الروابط بين زوج الحيوانات، كما أن تجاربهم أثبتت أن له صلة في التآلف بين البشر، وفي التعرف على الوجوه المألوفة، ويسهم في تقوية العلاقات الاجتماعية الناجحة.. فهل تبدُّل المشاعر سببه اضطراب في كمية إفرازات هذا الهرمون؟
في حقيقة الأمر إن النفس البشرية هي مجموعة من المشاعر والعواطف والآراء والأفكار، وهي منظومة متكاملة، تعطي المرء صورته وشكله وطبيعته عند الآخرين؛ يحاول كل واحد منهم التعرف على الآخر؛ فيسعى لفهمه، والبحث عن قواسم مشتركة بينهما؛ فتجذبه بعض الصفات؛ فيقيم علاقة إنسانية معه.. وقد يأتي زمن آخر، وموقف عابر؛ ليكتشف المرء أن مشاعر الحب والمودة مع من اختاره لم تعد صالحة، أو يكتشف أنه كان مخطئًا فيها، أو أنها أصبحت ترهق كاهله، وتتطلب منه جهدًا كبيرًا للحفاظ عليها، أو أنها أصبحت تترافق مع الملل والضجر والسأم بعد أن غابت عن هذه العلاقة الشهوة واللذة؛ فاضطر إلى أن يحولها إلى كره ونفور!!
لا تأمن لحب دائم، ولا تثق بما عندك من قناعات؛ لأنك لا تدري؛ فقد يتغير ويتبدل كل شيء!!.. واعلم أنك تعيش في زمن مضطرب ومتقلب؛ أسهمه لا تثبت على مستوى واحد!!.. واعلم أن الناس من حولك يحملون ازدواجية في المشاعر والعواطف، وأنه سرعان ما تختفي إحداها ليظهر نقيضها؛ فقد يبدي أحدهم لك كرهًا شديدًا، ثم يظهر لك بعد مدة مودة ومحبة غير معهودة منه من قبل، وقد يحدث العكس!!.. واعلم أنك معرَّض مثل غيرك لانقلاب في هذه المعادلة، وحينئذ عليك أن تعلم أن العلة هي في قلبك؛ وأنك لم تحتط لهذا الانقلاب، ولم تأخذ الوقاية والحذر الكافيين لمثل هذا الانقلاب؛ وذلك لوجود علة ومرض، لم تعالجه، بل تركته ينخر فيه!!