تشهد الجامعات في المملكة العربية السعودية حاليًا متغيرات جذرية في جانب الدراسات العليا، هذه المتغيرات منها ما يأتي من واقع مفروض على الجامعات كأن تكون الدراسات العليا مصدرًا من مصادر الدخل للجامعة، وهو المتوافق مع اتجاه الدولة في تنويع مصادر دخل القطاعات الحكومية، ومنها ما يكون من رؤية وتخطيط الجامعة نفسها كإنشاء أقسام جديدة لم تكن سابقًا موجودة في برامج الدراسات العليا.
ومن المعلوم أن المقاصد المطلوبة والغايات المنشودة من برامج الدراسات العليا للفرد والمجتمع والدولة ليست هي ذات المقاصد والغايات المقصودة والمنشودة من برامج التعليم العام وكذلك مرحلة البكالوريوس. فبرامج الدراسات العليا برامج ذات نوعية مخصوصة وأهداف عميقة تنعكس على مستوى الدولة انعكاسًا لا يأتي به التعليم العام.
وأريد هنا استشراف المستقبل والحديث عن أثر قرار تحويل الدراسات العليا إلى برامج مدفوعة في الجامعات، عبر النقاط الآتية، ولكن قبل هذا أريد أن يستوعب القارئ ما هو الأثر الحقيقي لقرار تحويل برامج الدراسات العليا إلى برامج مدفوعة؛ إن الأثر الحقيقي لهذا القرار هو أن الدراسات العليا لدينا أصبحت في متناول أيدي ميسوري الحال والمال أقرب منه إلى أيدي غيرهم من طبقات المجتمع.
وإليك أخي القارئ المحاور الأساسية حول هذا الموضوع في النقاط التالية:
أولاً: جاء هذا الاتجاه -وهو تحويل برامج الماجستير والدكتوراه إلى برامج مدفوعة من قبل الطلاب للجامعة- على أنقاض الأنظمة واللوائح القديمة المترهلة لهذه البرامج دون تغيير في هذه اللوائح والأنظمة. فمن المعلوم أن التخصصات النظرية لدينا المتعلقة بعلوم الشريعة واللغة والتاريخ والدراسات الاجتماعية والإنسانية لها ما يزيد عن الأربعين عامًا على نفس الطريقة والنمط في أنظمة القبول ولوائح الخطط الدراسية وسنواتها وطريقة الإرشاد والإشراف وفي طريقة قبول المواضيع والعناوين وفي كيفية إجراءات القبول النهائي للمواضيع والأحداث التي تتم بين المجالس العليا مع مجلس القسم المتخصص.. كل هذه الأمور لم يحدث فيها تغيير باستثناء استحداث الاختبار الشامل والساعات المنهجية لبرنامج الدكتوراه، وباستثناء ما تجتهد فيه بعض الجامعات من تفسير للوائح، حيث تُقرر بعض هذه الجامعات شيئًا من التجديد والتطوير الحاصل في بعض الإجراءات السابقة كتفسيرٍ منها لذلك، لكن الأمر لم يزل على ما هو عليه، فالتضخم الحاصل في الرسائل والعناوين والمشاريع العلمية، ونوعية الطلاب المقبولين، وتغليب جانب البحث على الساعات الدراسية كلها، وعدم التجديد والإضافة والمراجعة في المفردات والمواد الدراسية كل ذلك يحتاج إلى إعادة هيكلة في برامج الدراسات العليا.
وهنا أقول إن قرارًا مصيريًا كتحويل برامج الدراسات العليا إلى برامج مدفوعة يحتاج قبل ذلك إلى قرارات جذرية تعيد حيوية اللوائح للواقع الذي نعيشه وأن تضبط الأنظمةُ المتغيراتِ التي حصلت مع مرور الزمن وتعالج التضخم الحاصل في طريقة المواضيع وتسجيلها وأن تفك العُقَد الحاصلة بين المجالس العليا ومجلس القسم المتخصص، والأهم من ذلك كله هو أن تحافظ على قوة البرامج العلمية في نوعية الطلاب الدارسين وألا تتغلب المصلحة الاقتصادية على المصلحة العلمية وذلك بقبول أكبر عدد ممكن من أجل الدخل المادي، هذه القرارات ينبغي ألا تكتفي بالشهادة الجامعية وباختبار القدرات، بل ينبغي أن تعتمد على النظر إلى التحصيل العلمي الذاتي للطالب، فيبدأ يعالج الطالب وضعه العلمي ذاتيًا قبل أن يتقدم لهذه البرامج، ولك أن تتصور ذلك بطالبٍ حصل على النّسب المطلوبة في الشهادات وتقدم لقسم اللغة العربية وهو لم يقرأ كتابًا في الأدب ولم يحفظ شيئًا من الشعر ولا يعرف من الإعراب إلا المبتدأ والخبر!! وعلى هذا فقس في سائر التخصصات.
ثانيًا: سبق هذا القرار قرار آخر صدر قبل سنوات وهو اشتراط تجاوز اختبار قياس المخصص للمتقدمين للدراسات العليا، وإذا نظرت إلى اختبارت القياس المخصصة للدراسات العليا ستجد أنها لم تضف شيئًا جديدًا إلى الطالب نفسه الذي تجاوز الاختبار، كما أنها لم تضف تغييرًا في ارتفاع مستوى الطلاب علميًا مما يعني رفع مستوى التخصص والقسم الذي قُبل فيه. فالأسئلة المطروحة في هذا الاختبار لا تقدم شيئًا لنا في مسارات الدراسات العليا، وليس لها أثر في تخصيص توجه الطالب ومساعدته على كشف ميوله العلمية بحيث إنها تنجح هذه الاختبارات في بيان التوافق بين الطالب والتخصص المبني على معلوماته ومهاراته النشطة فيه الآن.
فالخشية الحاصلة من الآثار السلبية من قرار تحويل الدراسات إلى برامج مدفوعة له ما يبرره إذا نظرنا إلى عدم جدوى اختبار قياس بشكله الحالي وطريقته القائمة الآن، وهي فرصة أخرى في هذا المقال أدعوا فيها إلى تغيير جذري لطريقة اختبار قياس الدراسات العليا إما بأن توكل للجامعات ويرتبط بمركز قياس، أو تكون هناك مسارات متخصصة في الاختبار لها طبيعة خاصة في أسئلتها حسب مسارات الجامعة أو أي حلول أخرى.
ثالثًا: إن أهم محور حول موضوع تحويل برامج الدراسات العليا إلى برامج مدفوعة هو تضييق الفرص وتبديدها من أيدي الطلاب المستحقين علميًا للدراسات العليا من غير ميسوري الحال أو متوسطي الدخل، لا سيما في ظل ارتفاع برامج الماجستير والدكتوراه إلى مبالغ عالية جدًا في بعض الجامعات. فالطالب المليء ماليًا وعلميًا ستكون فرصته أولى بالدراسة من الطالب ذي الدخل المحدود وهو مستحق ذلك علميًا، بل قد يسدّ الطلاب المليئون كل الفرص أمام الطلاب المعسورين، وهنا يظهر لنا كيف يفترس المال العلم، وكيف يتغلب الاقتصاد على العلم، وقد يصل الحال إلى انقلاب المبادئ في مفهوم الدراسات العليا. لأنه في النهاية ستكون الشهادات العليا في المستقبل من نصيب الطبقات الميسورة، وتنحسر في الطبقات المتوسطة والكادحة، وهذا أمر له عوائد سلبية على المجتمع.
رابعًا: ستتغير نظر الجامعات والأساتذة إلى هؤلاء الطلاب الذين دفعوا أموالهم من أجل تحصيل الشهادة العليا، وستنظر إليهم بعين الرحمة والشفقة بألا تجتمع على الطالب مصيبتان: مصيبة دفع الرسوم المالية الباهضة، ومصيبة الرسوب أو المعدل المتدنّي والدرجات المنخفضة، ولو قلنا إن الجامعات ستقف موقفًا حازمًا أمام هذه الظاهرة الجديدة فلن يكون ذلك أمرًا عامًا، وسيذهب تدريجيًا مع الوقت. وخير مثال لنا في هذا بعض الدول العربية التي لا تعترف وزارة التعليم لدينا بكل جامعاتها، والسبب الأول في ذلك هو تساهل تلك الجامعات في منح الشهادات العليا مقابل المبالغ المادية مع الدراسة التي هي كتحلّة القسم عندهم. وإن الخطر الذي أصاب تلك الجامعات العربية ها هو يهدد أسوار جامعاتنا بهذا القرار.
أخيرًا: أنا لست ضد هذا القرار التعليمي السيادي، لكن لا بد من وجود مخارج لتتغلب الآثار الإيجابية على السلبية فيه، والحلول كثيرة، وأختم بحل أوجدته جامعتنا جامعة حائل حيث وقعت الجامعة مع مؤسسة سليمان الراجحي الخيرية مذكرة تفاهم لإقراض الطلاب -بشروط معينة- دفع رسوم الدراسة قرضًا حسنًا، ونأمل أن يتم قريبًا تنفيذه، وأن يكون له نظير آخر مع مؤسسة أخرى تعطي منحًا بشروط معينة، أو أن تُخصص مقاعد محددة تتكفل الجامعات بها، أو أن تكون السنة الأخيرة مجانية للأول والثاني على الدفعة وهكذا من الحلول التي لا تغيب عن عقول المسؤولين في الجامعات وأرباب الدراسات العليا. والله الموفق.
** **
د. حسان بن إبراهيم بن عبدالرحمن الرديعان - أستاذ العقيدة المشارك في جامعة حائل