عبدالعزيز السماري
من الأشياء المسكوت عنها أيضًا في تاريخنا ذلك الخلاف حول تشريع العطاء. ويذكر التاريخ أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - أول مَن أسس ديوانًا للعطاء، وفرضه للأقرب فالأقرب، وفي السياق نفسه كان لداهية العرب أبي سفيان رأي مخالف، وذلك عندما اعترض على فكرة العطاء بدون عمل، وقال: أديوان مثل ديوان بني الأصفر يا عمر.. إنك إن فرضت للناس اتكلوا على الديوان، وتركوا التجارة (أي العمل) مقابل ثمن مادي. فقال عمر: لا بد من هذا فقد كثر فيء المسلمين. وهو ما يعني ارتفاع احتياطات الدولة النقدية، والتجارة تعني ثقافة العمل..
ربما يتذكر البعض أنه عندما ترشح بيل كلينتون للرئاسة في عام 1992 قام أحدهم بوضع لافتة في مقر حملته، وكتب عليها «إنه الاقتصاد، يا غبي»، مذكرًا المرشح، وكل من يعمل معه، للحفاظ على التركيز على هذه القضية. وقد صاغ بيل كلينتون الكثير من حملته في ذلك العام فيما يتعلق بالصراع بين الناس العاديين من جانب، والأثرياء من جهة أخرى، مع شعارات مثل «القتال من أجل الطبقة الوسطى المنسية»، و»وضع الشعب أولاً». وكانت النتيجة انتصارًا سياسيًّا ساحقًا.
لذلك كل من يغفل أهمية الوضع الاقتصادي للبلدان، وتأثيره العميق في اختلاف نفسيات الشعوب واضطرابها، يخسر معركته مهما فعل؛ ولذلك تعاني الشعوب العربية من حالة اكتئاب وقلق وبطالة مقنعة وغير مقنعة بسبب المستقبل الاقتصادي غير الآمن؛ فالناس مستعدة للفرح والسعادة إذا توافرت ضروريات الحياة، وفي مقدمتها العمل والإنتاج وتحسُّن الدخل..
أدرك تمامًا أن الحياة أكبر من المادة، وأن الأخلاق والقيم تعتبر ضرورية في حياة الشعوب، لكن لا يمكن تجاوز موضوع أساسي، هو أن الاقتصاد يأتي أولاً، وما عدا ذلك يدور حول مركزية السوق. فالعمل والإنتاج عنصران أساسان في حياة الشعوب، ومن يقُل غير ذلك فهو أيضًا مخطئ تمامًا..
ربما يفسر ذلك الوضع السياسي المستقر في الغرب، الذي تجاوز عمر الدولة القديم. فالاهتمام بالاقتصاد يجعل من الناس في حالة نفسيه أفضل، وهو ما يخفف التطرف والثورية والمظاهرات والاضطرابات، بينما لا يزال الشرق يعتقد أن الدولة هي الأمن فقط، وهذا صحيح في جانب كبير، لكنها مثل اليد الواحدة التي لا تصفق في ساعة الفرح..
مختلف الأيديولوجيات تخرج من عباءة الاقتصاد، والذي إذا ساء يفتح أبواب التفكير الفوضوي، وتبدأ مرحلة المزايدات للأفكار الشيطانية، التي تبحث عن الفوضى من خلال استغلال معاناة الناس. فالإنسان كائن يتكون من كمية عالية من الغرائز، أهمها الأمن الاجتماعي، وأهمها كذلك وجود دخل يكفي ضرورياته ومُتعه في الحياة، وإذا فقدهما يتحول إلى مخلوق متطرف، ولم يعد لديه ما يخسره..
سقط الاتحاد السوفييتي (أكبر قبضة أمنية في التاريخ) بسبب تدهور الوضع الاقتصادي، وتساقطت أحجار أوروبا الشرقية على رقعة الشطرنج الاقتصادية؛ فالحكومات هناك فشلت في تنمية الاقتصاد، بينما نجحت نمور الدول الآسيوية عندما وظفوا الإنسان ليكون منتجًا، وقادرًا على الكسب.
أزمتنا أن المجتمع خلفيته زراعية وقبلية، ولم يكن له تاريخ صناعي، وربما يفسّر ذلك خلو السوق من المهارات اليدوية؛ والدليل اكتساح الأجانب المعامل والورش والمصانع. وقد نحتاج إلى تضحية من أجل تحويل الشباب لكي يعمل، ويكون ذلك بالاستفادة من تجارب الآخرين، وأن يكون لأصحاب المهن اليدوية أفضلية في التعليم العالي والتوظيف. حفظ الله بلادنا من كل شر.