د. حسن بن فهد الهويمل
الأنساق الثقافية، والخلفيات الفكرية، والمذهبية، والموروثات الذائبة، أو المنقولة، لا تدع للقراءة استقلاليتها، ولا للحضارة نقاءها.
هناك انتماء، وهناك موروثات تداولتها الأجيال، أطَّرَتْ، وَوَجَّهَت.
الانتماء يُوجِّهُ القراءة، والموروث يشُوبُ الحضارة. فلا القارئ يملك استقلالية الرأي، ولا الحضارة تملك نقاء المكونات.
لا شيء يتبخر، كل شيء يتحول إلى شيء آخر:-
(خَفِّفْ الوَطْءَ مَا أظُنُّ أديم الـ... أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الأَجْسَادِ)
الفلاسفة الماديون، والمتصوفة المغرقون في الشَّطْح، يتحدثون عن (الفناء الباقي):-
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ}.
وظاهرة الدورة الغذائية معروفة، كل شيء غذاء لشيء. حتى أنت، وأنا غذاء للدود، وفي النهاية :- {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}.
في أثرين يتضح منهما أن الحضارات توارثية، وليست تبادلية:
- حديث:- (إِنَّما بُعِثْتُ لأتَمِّم مكارمَ الأخلاق).
- وحديث القصر، واللبنة التي أتمت جماله.
وقول الرسول (وأنا هذه اللبنة) إشارة ضمنية لتكامل الحضارات. من هنا نستبين التوارث، والاستلاب.
جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- والشجاعة، والكرم، والزواج، والطلاق، والإرث، والأسرة وسائر القيم الحسية، والمعنوية قائمة في المجتمع الجاهلي، فأمضى صالحها، وعدَّل عوجها، وألغى فاسدها، وطرح مشروعه السماوي، خليطًا من قيم جديدة، وأخرى معدلة، أو محددة :- {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
جاء على فترة من الرسل، والحضارة الإنسانية كالقصر المنيف، وليس فيه إلا موضع لبنة، فكانت الرسالة المحمدية تلك اللبنة التي أكملت جمال القصر القائم.
واليوم نحن أمام حضارات متعددة، يكمِّل بعضها بعضاً. وواجب الإنسان السوي استبعاد الصدام، والصراع، والسعي لتكريس حضارة إنسانية، تسهم كل أمة في تكاملها. الغرب فَضَّلَ الصدام، ونفي الآخر. والحضارة الإسلامية من أقدر الحضارات العالمية على التعايش، والتصالح:- {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}. {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}.
فالبر، والقسط، والجنوح للسلام سبيل من سبل التصالح، والتعايش، وبناء الحضارة الإنسانية التي جاء الإسلام لتهذيبها، وهدايتها. علينا البلاغ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
حضارات الاستكبار والهيمنة تجنح إلى الصدام، والفوقية، ولا تفضل التكامل، والتعايش. تريد الإقصاء، والهيمنة، ولا تقبل منا السلام، وإنما تريد استسلام الذلة، والهوان، يريدون منا المداهنة، ولا يدهنون، ومع السوء في إدارة الاختلاف نجد من يمجد تلك الحضارة الاستبدادية، ويمنحها أفضل السمات، ويرى أنها البديل الأمثل، والأهم. وما هي في حقيقة الأمر جديرة بإدارة الحضارة الإنسانية.
العالم اليوم يجب أن يستفيد من ويلات الحروب، ولاسيما أن صناعة السلاح بلغت الدرك الأسفل من الوحشية، والرعب. إنه بحق سلاح الدمار الشامل، الذي اتُهم به العرب، وأبيدت إمكانياتهم الدفاعية بتلك الحجة الداحضة.
لكي يعيش العالم ما بقي له من حياة آمنًا على ضروراته الخمس، متوفراً على أمنه العقدي، والغذائي، لا بد له من التعايش، والتصالح، والتعاذر، وليس شرطاً أن يذوب الجميع في بعضهم.
لقد مرّ العالم بعد سقوط (الاتحاد السوفييتي) بمفاجأة مربكة، لم تمكّن القطب الواحد من إدارة العالم بكل تناقضاته العرقية، والحضارية، إدارة عادلة، أخلاقية.
هذا الفشل الذريع نسل من عباءته مجمل المصطلحات المسكوكة بعناية فائقة، منها (الربيع العربي) الذي أهلك الحرث، والنسل، وفوّت على العالم العربي فرصة التعايش، والتعاذر، والتصالح.
ومهما وقع المتكبرون في وحل التفاخر، والتطاول، والتباهي.. فإن العالم أمة واحدة:- {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}. وحين اختلفوا، وبغى بعضهم على بعض، بعث الله الرسل لإعادتهم إلى جادة الصواب.
ولأن صراع الحق والباطل أزلي، فإن الجهل سيظل سيد الموقف؛ ليمضي الله قدره.
على الأمة الإسلامية وسط هذا التناقض والبغي الاحتفاظ بمحققات الوجود. ولكلٍّ دينه، ولم يبق الآن بعد قوة الردع، والمؤسسات العالمية، والعهود، والمواثيق الدولية إلا الجهاد بالكلمة تماشياً مع:- (بلِّغوا عني ولو آية).