د. خيرية السقاف
السنوات الثلاث والثلاثون التي مرقت به وهو بعيد عن أسرته هنا في رياض الخير،
التي تزوج خلالها وأصبح أباً..
التي كبر فيها أبناؤه وتعلّموا، وتزوجوا، وهو هنا..
التي فيها انضموا أيضاً لموكب العمل هنا حاملين درجاتهم العلمية..
يفاخر بهم، يمدهم بصبره، وجهده، وصدقه وإخلاصه، وهو خلف مقود العربة التي اتخذها رفيقة يجوب بها الطرق، والمسافات، متقيداً ثلاثاً وثلاثين سنة بالنظام، يحترم الإشارات، جلَّ وقته لا يتكلم، وإن تكلم فبهدوء، وأدب، وإن تألم فبرفق، واحتساب...
ثلاثة وثلاثون عاماً «علي» فيها رفيق دروبي، سائقي الذي خط الشيب مفرقه وما اعوج به درب بين البيت والجامعة، والبيت ومدارس الأبناء، البيت والمصحات، البيت ودور الصديقات، البيت ومرافق المناسبات، لم يتأفف يوماً، ولم يضِق بجهد، ولا بزحمة وقت...
وحين انقضت الثلاثة والثلاثون عاماً حزم أمتعته للرحيل النهائي، فلا يزال في جعبته الكثير من الأحلام، والطموحات، إذ في بيته هناك في الخرطوم، صبيان لا يزالان في شغف انتظاره ليشاركهما بقية الرحلة إلى أن يبدآ حياتهما كما فعل إخوتهما..
وفي بيته -قبلاً - زوجة وفية صبورة كافحت معه على الجهة الأخرى من البحر..
كان موعد رحلة سفر عوته في أيام رمضان التي مضت حين حلَّ «كوفيد 19» وشلَّ حركة السفر، وتم في إثره الحظر..
«علي» كان له مع «كوفيد 19» موعد لقاء، حين رنَّ هاتفي فجراً كان صوته يتهدج، ضعيفاً، لا يكاد يخرج من فمه: سخونة عالية، ضيق في النفس، يبدو أنني مصاب!...
ساعات وكان «علي» في مشفى «دلة».. مسحة وتتضح الحقيقة..
يومان وكلنا في قلق، والسخونة تزداد، والوعكة تطرح هذا العلي الصامد، صاحب أصحابنا، رفيق مشاورينا، جار بابنا، حارس مفاتيحنا، الرفيق الأمين..
ثلاث وثلاثون وانفرط عددها بين عيني، يا الله الطف به، ارحم غربته التي طالت، واحفظه برحمتك، تباطأت الساعات ولا بد أن يكون بين أيدي أطباء..
مصاب بكوفيد 19، جاءت النتيجة بينما هو في طريقه للمشفى ذاته،
ما إن وصل إلى هناك حملته أيد رحيمة، وسَّدته سريراً معقماً مريحاً، تناولته بالإسعافات، وأطبق عليه كوفيد19 بكلكله، عجز عن التنفس، تدنت قدراته، فقد وعيه، ووضع في عناية فائقة تحت أجهزة التنفس الصناعي..
«علي» مغلق هاتفه، الوصول إليه كيف يتم؟..
وما لبثنا أن وجدنا الأطباء الرحماء يجيبون، حالته حرجة للغاية، لم يسألوا عن اسم المتحدث، بل عن العلاقة بالمريض حرصًا على أمانة المعلومات عنه، وبقي عليٌّ في صمته، ونحن في ترقب رحمة الله به، نصف شهر مرت فيها الثواني ساعات، والساعات أياماً، لا نملك له سوى الدعاء، اللَّهم لطفك، افزع له فلا حيلة له، ولا لنا إلا أنت،..
نصف شهر وساعات ثم أفاق «علي»..
نُقل من العناية المركزة للعناية الفائقة، ولم يستيقظ فيه سوى ذهنه وصوته..
وبقي في عناية المشفى أياماً أخر، الأطباء والممرضون يؤهلون رئتيه للتنفس، وقدميه للحركة..
العناية فائقة للغاية، شهر وبضعة أيام لم يتوان المشفى بطاقمه الطبي والتمريضي في العناية به، رعايةً، وعلاجًا، وإيواءً، وتغذية، وتمريناً، وأجهزة طبية، كل ذلك ولا فرق بينه، وبين أي مريض آخر..
حتى شفي تماماً، وفي يوم مغادرته المشفى كانت أغراضه معدة بعناية مع أدوية العلاج لمدة شهرين قادمين بين يديه..
خرج «علي» من هناك وهو يقول: (لا أدري لو أنني أصبت في غير «السعودية العظيمة» أكنت سألاقي هذه الرعاية الباذخة، والعناية الفائقة، والصرف السخي كالذي غمرني هنا؟!)..
ليلة الأمس طلب مني قائلاً: «لي رجاء أن تكتبي عن تجربتي مع «كوفيد19» ليس بوصفي المريض، بل بوصفي الإنسان الذي عُولج باهتمام، وأمانة، وبحرص، ورعاية، وبعناية، وإنفاق سخي في هذه البلاد مملكة الإنسانية دون أي تمايز بين مريض، وآخر فكلنا أبناء هذه البلاد في «الجائحة»، ذلك لأنني لا أعرف كيف أشكر هذا العطاء منقطع النظير».
هو الآن يحزم أمتعته ليعود إلى الخرطوم، وسيأخذ معه قلبًا عامرًا بحب السعودية، يغمره الامتنان الذي لن يفتر يلهج به، والحب الذي غمرته به تجربته مع «كوفد 19»..
فيما أنا ممتلئة بالفخر بكل هذا، ممتنة بشكر أن أعانتني بلادي بإنسانيتها، وأطبائها، ومعالجيها على تقديم ما كنت أعجز عنه لإيفاء ثلاثٍ وثلاثين سنة كان فيها «علي» نعم الابن، والأخ، والرفيق..
شكرًا قادتنا، شكرًا وزارة الصحة، شكرًا لكل الأطباء، والممرضين، والفنيين، والصيادلة، ومن يسهر، ومن يبذل بتفان لكل مريض دون استثناء..