د.فارس بن متعب المشرافي
انطلقت رؤية 2030 عام 2016 داعية إلى مجتمع حيوي، واقتصاد زاهر، ووطن طموح؛ فأحدثت ثورة في ميادين التطوير والتقدم على الأصعدة كافة، داعية القطاعات الحكومية والأهلية إلى تطوير وتحديث أدواتها وخدماتها لتحقيق أهداف الرؤية.
لقد هدفت الرؤية إلى تعزيز الوحدة والهوية الوطنية، والقيم الإسلامية، والإرث الثقافي، وتحقيق الاستدامة البيئية، وتوفير الرعاية الصحية، ودعت إلى وطن يكون موقعه مستغلاً، واقتصاده زاهرًا، وحكومته فاعلة، ومواطنه مسؤولاً.
ولإدراك الرؤية فإن أهدافها لن تتحقق إلا من خلال «سد الفجوة بين ما يتعلمه الطلاب حاليًا والمتطلبات لسوق العمل». وأصبح كل شيء يتعلق بالوطن والمواطن لزامًا عليه أن يواكب رؤية 2030، كلٌّ حسب تخصصه، وإلا كُتب عليه الجمود، ثم الفناء.
ولعل أقسام التاريخ والدراسات التاريخية هي من بين تلك الأقسام الأكاديمية التي حتى الآن تجر خطاها بكل ثقل في طريق هذا التطور والتقدم، بالرغم من أن كثيرًا من أهداف الرؤية تعتمد بشكل مباشر على مخرجات أقسام التاريخ كما سنرى (في مقالات لاحقة).
ويدرك جميع المتخصصين في حقل الدراسات التاريخية -وإن اختلفوا في الطريقة والأسلوب- أن مهنتهم وتخصصهم غارقان في الجمود، وربما ينتهي بهما المطاف للفناء قريبًا، ليس فقط في ظل احتياجات سوق العمل، وإنما كذلك في ظل التطورات الأكاديمية والبحثية التي طالت هذا العلم.
ولهذا نلحظ أن هناك أسئلة ملحة ومحرجة للمؤرخين، تأتي من داخل دائرة التخصص. على سبيل المثال: كيف نعيد تفسير الأحداث التاريخية؟ كيف ننتج دراسات تاريخية لها تأثيرها في الواقع الذي نعيشه من جميع النواحي؟ كيف تكون أقسام التاريخ الأكاديمية جاذبة للطلاب؟ كيف يسهم المؤرخ في بناء وتعزيز الهوية الوطنية؟ كيف يكون المؤرخ مواطنًا فاعلاً في تثقيف المجتمع، ومساهمًا في رفع وعي الأفراد؟ بمعنى كيف يبني شراكة مجتمعية؟
وعلى ضوء هذا تأتي أسئلة مماثلة في التذمر من التخصص من غير المتخصصين، فمثلاً دائمًا ما نسمع: ما فائدة أقسام التاريخ بالنسبة لسوق العمل؟ ماذا يستطيع هذا التخصص أن يقدم لطلابه في مواكبة هذه التطورات التقنية والفكرية الهائلة؟ كيف من الممكن أن يكون تخصص التاريخ مثل بعض التخصصات الأخرى التي يتسابق لها الطلاب، ويتنافسون في حجز المقاعد؟ ولعل السؤال الأكثر أهمية مما سبق هو: كيف يخلق تخصص التاريخ فرص عمل لخريجيه؟ لا شك أن هذه مشكلة حقيقية، يتحرج ويتهرب منها الكثير، ولكن من أهم خطوات حل المشكلة - كما أصبح معروفًا - هي مواجهتها. هذه الأسئلة في الحقيقة يجب أن تكون هي المحفز لنا نحن المتخصصين في مواجهة المشكلة.
إذا تمعنا في هذه الأسئلة سنتعرف على أن المشكلة تكمن في محورَين أساسيَّين، الأول يتعلق بالطبيعة الأكاديمية الجامدة الحالية لتخصص التاريخ، بمعنى أن هناك ضرورة ملحة لإعادة النظر في برامج الدراسات التاريخية الأكاديمية نفسها. وهذا يستوجب معالجة الآتي: المواضيع التاريخية التي تدرس في المقررات، بمعنى أن كل مقرر يجب أن يكون له مواضيع ذات تأثير واضح على الواقع، تتفاعل مع ما يشغل تفكير الإنسان في الحاضر، وتكون ملهمة له لدراسة المستقبل واستراتيجياته. المعالجة في هذا المحور تشمل كذلك مصادر التعلم؛ إذ يجب إضافة المصادر المرئية والرقمية للمصادر التقليدية. وكل هذا يقتضي إعادة النظر في تناول مواضيع التاريخ، وتقديم المعلومة التاريخية لكسر الجمود الراتب على أقسام التاريخ.
أما المحور الثاني فهو يدور حول كيف سيواكب تخصص التاريخ التطورات ومتطلبات وأهداف رؤية 2030؟ وبالتالي كيف يكون تخصصًا له ميادين في سوق العمل؟ بعبارات أخرى: كيف سيجد التاريخ، كتخصص، سِكّته الخاصة به من بين مئات السكك التي أصبح كثير من التخصصات الأكاديمية تُعرف من خلالها؟ كيف تسير بخطواتها، بثبات وتخطيط؛ لتواكب هذا التطور الذي أحدثته الرؤية؛ وبالتالي احتياجات سوق العمل؟
إن أقسام التاريخ, إذا أرادت تحسين مخرجاتها الأكاديمية؛ وبالتالي خلق فرص عمل أوسع لخريجيها, فهي بحاجة ملحة لإعادة النظر في مقرراتها ومواضيعها التي تقدمها لطلابها على مختلف المستويات. وفي مقالات تالية سأتحدث عن كيف سيكون لأقسام التاريخ -من وجهة نظري- القدرة على توسيع مجالاتها وتطويرها؛ وبالتالي يكون لها دور في تحقيق الكثير من أهداف الرؤية.
** **
رئيس قسم التاريخ - جامعة الملك سعود