د.عبدالرحمن الفريح
لم يكن التاريخ غائبًا في يوم من الأيام عن ذهن وفكر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وكيف هذا وهو هاجسه المسيطر على كثير من مناحي حياته... والتاريخ هو واسطة العقد في منظومة الدراسات الإنسانية وحتى العلوم التطبيقية، إذ إن لكل علم تاريخ ولابد لكل معرفة من أن تندرج في مراحلها التاريخية.. ولن أقف عند الملك سلمان من حيث إنه صاحب موهبة في معرفة كثير من المواطنين من أبناء بلادنا الكريمة بمعنى معرفتهم بأسمائهم وإن لم يكن بأسمائهم ففي بلدانهم وعشائرهم وعوائلهم، ذلك إن هذه المعرفة موهبة اشتهر الملك بها منذ أيام شبابه وتألقت هذه الموهبة ونمت الفراسة عنده بتراكم الخبرات والتجارب، ولأنه كان أميرًا لمنطقة الرياض لسنوات عديدة.
الملك سلمان هو رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان نائب رئيس مجلس الإدارة، والدارة تُعنى بتاريخ الملك عبدالعزيز مؤسس المملكة العربية السعودية وتاريخ وآداب وبلدانيات جزيرة العرب من خلال المقر الأساسي للدارة بالرياض، ومن خلال فروع استجدت وبدأت تنهج نهج الدارة الأم في إقامة الندوات والاشتراك في المؤتمرات مع إتاحة الفرصة لطالبي المعرفة والباحثين من أهل التخصص وأهل الاهتمام بالتاريخ، وما يتصل به من علوم الدراسات الإنسانية ومعارفها وسائر العلوم، ليصلوا إلى غاياتهم. لقد تيسر لهذا الأمر باحثون كتبوا عنه وأفادوا وأجادوا فعرضوا لنشاط الدارة الذي يهدف إلى تحقيق الكتب التي تخدم تاريخ المملكة وجغرافيتها وآدابها وآثارها الفكرية والعمرانية وآثار الجزيرة العربية.. وإعداد البحوث والدراسات والمحاضرات والندوات عن سيرة الملك عبدالعزيز وعن المملكة وحكامها وأعلامها قديمًا وحديثًا.. والمحافظة على مصادر تاريخ المملكة وجمعه مع منح جائزة سنوية باسم جائزة الملك عبدالعزيز... وكذا جائزة ومنحة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لدراسات وبحوث تاريخ الجزيرة العربية. تحدث المتحدثون عن ذلك وكتبوا وحللوا ونقدوا ذلك، إنهم إنما رصدوا نشاط الدارة ونتاجها وانصبت عنايتهم فضلاً عن عرض أهدافها إلى ما أصدرته من علم ومعرفة وما طرحته من خدمة وطنية بحثية. لعل ما مضى هو إشارة سريعة ذات مغزى ودلالة وذات معنى يرمز إلى اهتمام الملك سلمان بالتاريخ الذي لا يمكن أن نحصره في جانب واحد، إذ إن للملك سلمان وقفات مع التاريخ من حيث توظيفه واستثماره استثمارًا علميًا لحاضرنا ولمستقبلنا.. ولنا أن نضرب لذلك مثلاً من تاريخ الملك عبدالعزيز والبناء التنموي السعودي في عهده، ذلك أن بناء الدولة السعودية الثالثة سار في مسيرين متوازيين، الأول حربي عسكري، والثاني تنمية ومنجزات مادية، ووفقًا لنظرة الملك سلمان ووفق المنهجية العلمية فدارسو ومعلمو التاريخ لابد أن يكونوا على إلمام بأهمية المنجز الحضاري والعسكري في آن واحد، وأنه ليس من الإنصاف أن نركز على مسير واحد دون الآخر. إن ما يلاحظ من التركيز عند بعض الباحثين في تدريس تاريخ المملكة على المسيرة الحربية ما هو إلا خلل منهجي، فتكوين المملكة والنشأة الأولى قد تزامنت فيها التنمية وإرساء لبنات البناء الحضاري مع المشوار الحربي العسكري. وهنوقفة جادة نجدها في اهتمام الملك سلمان بتاريخ الملك المؤسس وباني النهضة الحديثة في المملكة، وهذا الاهتمام إنما هو منطلق أكاديمي وطريقة منهجية على معلمي التاريخ إتباعها والسير في دربها.. مع إمعان النظر فيما هو منجز حربي وما هو من لبنات البناء التنموي. يعيش الملك سلمان بأحاسيسه ومشاعره مع لحظات بداية التكوين التنموي السعودي ويمضي مع خطوات البناء بفكره وتفكيره.. والتأسيس في جانبه الحضاري يعتمد على جوانب سياسية وعلاقات عامة وجوانب اقتصادية وتعليمية واجتماعية ووطنية.. وبإمكاننا أن نقول إن المحاضرات العلمية والندوات التعليمية والإعلامية عن تلك المرحلة بالغة الأهمية وفق نظرة الملك ووفق المنهج الحديث في الدراسة. نحن إذًا مع مسيرة تاريخية نبدأها على سبيل المثال باتفاقية «دارين»، ومعاهدة «دارين» تمت بين الملك عبدالعزيز وبريطانيا في عام 1915م بعد زمن قصير نسبيًا من دخول الملك عبدالعزيز الرياض، وبعد لقاء الملك عبدالعزيز بالمندوب البريطاني في عام 1328م الموافق 1910م، وتم التوقيع على المعاهدة في دارين بناحية تاروت مقابل القطيف، وهذه الاتفاقية جزء من تاريخنا.. وظروف توقيعها وسياق الحوادث في زمانها يجعلنا نقبل إيجابياتها وننظر في عوامل سلبياتها شأنها شأن كل حوادث ومعاهدات التاريخ.. والباحث العارف يدرك أن بلادنا آنذاك كانت لا تتجاوز في حدودها بعض نواحي وسط وشرق جزيرة العرب. إذا كانت لاتفاقية دارين ظروفها وواقعها الزمني، فلننظر إلى كيفية التطور فيما بعدها في السياسة السعودية وعلاقاتها الدولية وبنائها التنموي.. وهنا نكون أمام منعطف تاريخي مهم ندرسه بعناية أكاديمية وندرسه ونناقشه إعلامية، وهنا تتجلى حنكة الملك عبدالعزيز في مسيرة البناء التنموي والخطوات السياسية، وهنا نظرة الملك سلمان لكيفية التعامل مع التاريخ دراسة وتعليمًا. لم يمض وقت طويل بعد اتفاقية دارين حتى تم توقيع اتفاقية جدة في 18-11-1345هـ الموافق 20 مايو 1927م، وفيها اعتراف صريح من بريطانيا بالمملكة العربية السعودية حتى والمملكة لم تحمل هذا الاسم بعد.. وفي اتفاقية جدة كانت هناك مكاسب سياسية للمملكة واقتصادية من بينها إلغاء اتفاقية دارين.. وبعد معاهدة جدة في عام 1927م بسنوات قليلة تم تسمية المملكة العربية السعودية بهذا الاسم وتحديدًا في عام 1351هـ الموافق 1932م، وهذه خطوة وطنية مهمة سبقها بسنوات إنشاء مديرية للمعارف في عام 134هـ وتوطين أبناء القبائل من أهل الحل والترحال في مراكز استقرار دائمة في خطوة اجتماعية تنظيمية، وهذه الخطوات المهمة إنما هي لبنات أساسية في مسيرة بناء التنمية الوطنية السعودية علمية واجتماعية ووطنية. إذا كانت خطوات البناء تمضي قدمًا.. والتاريخ يسجل التطور السياسي مثلما هو الشأن مع الرقي المعرفي من حيث التعليم الذي هو الركيزة المهمة التكوين السعودي.. وإذا كانت معاهدة جدة قد وقفت بنا على عهد جديد للمملكة على المستوى العالمي من حيث اعتراف دولة من أكبر دول العالم وهي بريطانيا بالملك عبدالعزيز ملكًا تحت مسمى ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، فإنه وبعد سنوات قليلة من تاريخ الاتفاقية تم الإعلان عن المسمى الجديد لمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها.. والاسم الجديد هو المملكة العربية السعودية وذلك في عام 1351هـ/ 1932م.
بعد ذلك نجد أن تاريخ المملكة العربية السعودية يقف بنا أمام منعطف تاريخي آخر مهم جدًا خلال عدد من السنوات، تلك هي أعوام الحرب العالمية الثانية التي ما أوشكت على الانتهاء حتى كان رؤساء الدول الكبرى المنتصرة يعقدون مؤتمرهم الأول في مدينة سياحية من أجمل مدن الدنيا اكتشفت في عهد اليونانيين، وفي تلك المدينة التي كانت آنذاك ضمن التبعية السوفيتية وقعوا أشهر اتفاقية في التاريخ العالمي الحديث في 4 -11 فبراير 1945م.
من تلك المدينة وبعد توقيع الاتفاقية مباشرة وفي طريق العودة توقف أحد المجتمعين هناك وهو الرئيس الأمريكي روزفلت في البحيرات المرة في السويس بالقرب من الإسماعيلية المدينة المصرية للقاء الملك عبد العزيز، وهناك كان لقاء الملك عبدالعزيز بالرئيس الأمريكي روزفلت من على ظهر البارجة الأمريكية كوينسي في عام 1945م.
حملت اتفاقية الدول الكبرى وهي أمريكا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا اسم المدينة الساحرة التي عقد فيها المؤتمر، مؤتمر القرن وهي مدينة يالطا الواقعة في أوكرانيا في شبه جزيرة القرم بقرب البحر الأسود.. وممثلو الدول الممثلة في ذلك المؤتمر هم روزفلت الرئيس الأمريكي وستالين رئيس الاتحاد السوفيتي وتشرشل رئيس الوزراء البريطاني وأولى نقاط حوارهم كانت هي حال ألمانيا والنازية وبخاصة وهم على شبه يقين بهزيمة هتلر ودول المحور وانتهاء الحرب، وقد انتهت الحرب فعلاً في 2 سبتمبر 1945م بعد ست سنوات من بدايتها.
هذه هي المملكة في أيام الحرب الكونية الثانية وبعدها، فهي مع الحدث العالمي وفي دائرته ويلتقي الملك عبدالعزيز بروزفلت ويضفي هذا اللقاء على المملكة أهمية تدفع بالدولة السعودية الناشئة إلى وثبات متسارعة متلاحقة سياسياً واقتصادياً.
ومن أحاديث لقاء يالطا وهو مؤتمر القرن ما ذكره أحد المعلقين من أن الرئيس الأمريكي مع صاحبيه تشرشل وستالين كانوا جميعاً ذوي معاناة، ففضلاً عن روزفلت ومعاناته فتشرشل الثري الذي نشأ في وسط أرستقراطي وبلغ شهرة في السياسة والأدب والفن كان دائماً ما يحاول تلافي لثغة في لسانه حينما يتحدث، أما ستالين فلعل حياة البؤس في صغره ظلت ملازمة له حتى في كبره، وهو الذي ظل يذكر هذا عن نفسه.
أما بعيداً عما يمكن أن نشبهه بالطرائف هنا فإنَّ حدثاً سياسياً مهماً قد حدث هو الآخر بُعيد لقاء الملك عبدالعزيز بروزفلت في البحيرات المرة.. وهو أن تشرشل توقف هو الآخر في مصر في زيارة أخذت طابع السرية.. وفي فندق أوبراج في مدينة الفيوم حدث لقاء سياسي بالغ الأهمية لم يكن ضمن دراسات كثير من الباحثين، وقد تحول الملك عبدالعزيز من البحيرات المرة للقاء تشرشل في الفيوم.
تداول المغردون عبر تويتر مقطع فيديو نادر للقاء الملك عبدالعزيز برئيس الوزراء البريطاني تشرشل في فندق أوبراج الواقع على ضفاف بحيرة قارون بمدينة الفيوم المصرية، وذلك بمناسبة زيارة ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان لبريطانيا.
تم لقاء الملك بروزفلت في 1-3-1364هـ الموافق 14 فبراير 1945م على متن البارجة كوينسي، وفي 17 فبراير كان لقاؤه بتشرشل، وكانت مغادرته جدة في 12 فبراير 1945م. كانت المملكة وقبل بداية الحرب قد وقعت في 20 مايو 1933م اتفاقية الامتياز للتنقيب عن النفط في المملكة مع شركة ستاندرد أويل كومباني الأمريكية، وفي زمن الحرب العالمية الثانية في عام 1947م توقفت أعمال رسم الخرائط الخاصة ببئر البترول الذي تم اكتشافه وهو حقل للنفط بسبب محدودية القوى العاملة والمعدات أثناء الحرب.
وفي عام 1357هـ الموافق 1938م وصل محامي الشركة ويليام لينهان إلى الرياض لينقل للملك عبدالعزيز خبر العثور على الزيت بكميات تجارية كبيرة، وذلك في 11 محرم 1357هـ الموافق 12 مارس 1938م، وكان الملك قبل ذلك قد زار منشآت شركة الزيت العربية الأمريكية وتحديدًا في 8 ربيع الأول 1358هـ الموافق 28 أبريل 1939م، وهي زيارته الرسمية الأولى للشركة عن طريق البر حيث وصل إلى المنطقة في أول شهر مايو وذلك في موكب كبير وتضمن برنامج الزيارة تفقد منشآت الشركة وافتتاح مجرى انتقال الزيت إلى أول باخرة شحنت الزيت السعودي إلى الخارج. في ضوء ما تقدم فإن الملك سلمان ومنذ سنوات مضت كان مع رصد هذه التطورات السياسية والتنموية في التاريخ السعودي ومع إدراجها ضمن مقررات الأقسام العلمية المتخصصة بالدراسات التاريخية والحضارية في الجامعات والمعاهد بل وحتى إدراجها في جميع الأقسام العلمية بجامعات المملكة ومعاهدها على أنها من مكونات تاريخ الوطن الأساسية وأنها من متطلبات الدراسة.
إن الملك سلمان حينما يؤكد هذا فلأسباب منها عنايته الفائقة بتاريخ تأسيس وتكوين الدولة في إطار التنمية والسياسة والعلاقات الدولية، وثانيها إنه حريص على أن لا يمر الباحثون من المتخصصين على أي مظهر من مظاهر البناء دون أن يأخذ حقه من الفحص والتمحيص والنقد والتدقيق، وثالثها إيمانه الراسخ بأهمية الاستفادة من كل ما يخدم القضايا التاريخية والمواد اللازمة لدراسة مراحل بناء الوطن وتنميته... وبعد هذا يأتي تأكيد الملك سلمان الدائم أيضًا على ضرورة أن تيسر وتقدم لأهل الاختصاص كل ما له صلة ببلادنا وتأسيسها وتكوينها في زمن مضى، ولقاءات الملك عبدالعزيز بالقادة والساسة العالميين واكتشاف البترول والتعليم وبنود المعاهدات والاتفاقيات التي أبرمت والوثائق والصور الثابتة والمتحركة والأفلام والمذكرات.. إذ إن كل هذا من المواد الأصلية لتاريخنا مضافًا إليه الروايات الشفهية والأخبار المحلية والأشعار.
هذه النظرة العلمية نجد أن الملك سلمان كان معها قلبًا وقالبًا ومنذ أعوام خلت وهي في طليعة اهتماماته التي ما يفتأ يؤكدها وخاصة في لقاءاته بالمؤرخين مع تأكيده عدم مجانبة الإنصاف في الدراسة والبحث، فالتاريخ يُدرس بخيره وشره وحلوه ومره وبأفراحه وأتراحه.. وهذا معناه أن إيجابيات التاريخ والحضارة رصيد محمود لبلادنا.. والسلبيات ينظر في عوامل حدوثها ونتائجها ومآلاتها نظرة علمية، ولا نحاول أن نتواري أو تعتم على ما هو مخالف لآمالنا أو ما هو دون طموحاتنا وتطلعاتنا.
يضرب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان مثلاً على كل ما يطرحه عن التاريخ، ومن ذلك أنه حين يتحدث عن الدولة السعودية الأولى يؤكد أهمية البحث في جوانب متعددة في نشأتها ومراحل تكوينها بإطارها الزماني والمكاني وعاصمتها وحكامها وجميع ما يتصل بها مع أهمية النظر في عوامل سقوطها ونتائج ذلك، ولطالما كرر الملك على مسامعنا مقولة «بيدي لا بيد عمرو» في إشارة إلى أن الأكاديميين من أبنائنا وأهل الاختصاص منهم والمهمتين أيضًا هم الأولى بدراسة تاريخنا وإبراز محاسنه ومزاياه، وإمعان النظر كذلك فيما اعترض ويعترض تاريخنا من معوقات ومثبطات، فتاريخنا ليس بدعة في تواريخ الأمم ونحن جزء من عالم الكون الأممي وما يعرض لنا يعرض لغيرنا والعكس صحيح فيما يخص الإيجابيات والسلبيات.
إن مبدأ الإنصاف في التعامل مع التاريخ يبدو جلية واضحة فيما نعرضه من تاريخنا بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق المنهج العلمي الحديث للبحث، وما نعرضه في بحوثنا لاتفاقيات بلادنا ومعاهداتها مع الدول ولقاء الملك عبدالعزيز بقادة وزعماء العالم ومراحل تطور التنمية ما هو إلا دليل على ما نقول، وهل نحن في هذا إلا مع تطلعات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان لدراسة تاريخنا وتدريسه وفق أسس علمية صحيحة رصينة.