د. عبدالحق عزوزي
أضحى أمن الإنترنت من المواضيع الحساسة والاستراتيجية التي تشغل بال العديد من الحكومات العالمية وعلى رأسها الدول الكبرى.. فليس غريبًا ان تقرأ مثلا أن قراصنة تمكنوا من اختراق بعض الحسابات الخاصة على البريد الإلكتروني الخاص بكبار المسؤولين الأمريكيين أو أن تتعرض مؤسسات دولية وأجهزة أمن قومية لهجومات إلكترونية. وليس غريبا أن نسمع أن الجيش الإسرائيلي يعمل سنويا لتأهيل مئات الجنود والضباط للعمل في مجال الحرب الإلكترونية في إطار الدوائر الاستخبارية والتنصت أو أن نسمع ونقرأ عن بعض المراسلين والقادة الاسرائيليين أن الحرب الإلكترونية باتت اليوم حربًا تستعد لها تل أبيب جيدًا، خشية أن تدخل في أنظمتها الحساسة فيروسات تشل عملها في أحرج الأوقات.
فأمن الإنترنت أصبح من الخصائص المباشرة لعمل أجهزة الأمن القومي ومصالح الجيش ووزارات الدفاع التي تضع خططا واستراتيجيات وسياسات عمومية دائمة لحماية أمن شبكاتها الإلكترونية المعقدة ومن ثم أمنها الداخلي... ونتذكر ما قام به القضاء الأمريكي منذ سنوات عندما قام بمحاكمة خمسة جنود صينيين بسبب القرصنة الإلكترونية والتجسس الاقتصادي...
واليوم تقول المملكة المتحدة إن أجهزة الاستخبارات الروسية تقف وراء هجمات نفذتها مجموعة قراصنة «تعرف باسم آي بي تي 29» للاستيلاء على أبحاث تخص لقاحا ضد فيروس كورونا المستجد. واعتبر وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب أنه «من غير المقبول على الإطلاق أن تستهدف أجهزة الاستخبارات الروسية من يعملون على مكافحة جائحة كوفيد-19، وحذّر أن من ينفذون هجمات مماثلة «سيتحملون مسؤولية أفعالهم» عاجلا أو آجلا. وأضاف في بيان له «في حين يسعى البعض بطيش وراء مصالحهم الأنانية، تتابع المملكة المتحدة وحلفاؤها عملهم الشاق لإيجاد لقاح وحماية الصحة العالمية».
ويأتي هذا الاتهام في وقت تشهد العلاقات بين لندن وموسكو توترا على خلفية تدخلات روسية محتملة في حملات الانتخابات التشريعية البريطانية الأخيرة التي فاز بها المحافظون، وفي استفتاء 2016 الذي قاد إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ وقد أكدت الحكومة البريطانية منذ أيام أنها «شبه متأكدة» من أن «فاعلين روسا» سعوا إلى عرقلة الانتخابات التشريعية عبر نشر وثائق خلال فترة الحملة الانتخابية حول اتفاق تجاري محتمل بين لندن وواشنطن عقب بريكسيت؛ كما فتح تحقيق لتحديد مصدر تسريب هذه الوثائق التي نشرت على موقع «ريديت» للتواصل الاجتماعي.
والعلاقات بين لندن وموسكو في أدنى مستوياتها منذ تسميم العميل الروسي السابق سيرغي سكريبال في مدينة سالزبيري جنوب غرب بريطانيا. وسبق أن نفت روسيا أي تدخل في التسميم، لكن المسألة قادت إلى عمليات طرد متبادلة لدبلوماسيين بين لندن وحلفائها وموسكو. ولم يتجدد الحوار بين البلدين إلاّ في شباط/ فبراير 2019 بعد انقطاع دام أحد عشر شهرًا.
في ظل البيئة الدولية المعقدة والتي بدأت تتعقد أكثر مع جائحة كورونا، بدأت تظهر روسيا على شكل قوة تثق في نفسها وتستعمل أسلحة ذكية لم تعهدها العلاقات الدولية من قبل، وتؤثر بدرجة كبيرة في مسار العمليات السياسية في أقوى الدول الديمقراطية وتسعى إلى أخذ البيانات والمعطيات التي تريد؛ فالرئيس الروسي يعي جيدا مفهوم القوة، وبالضبط المفهوم الذي أعطاه المحلل والمنظر الاستراتيجي الأمريكي الكبير جوزيف ناي، أي القدرة على تحقيق النتائج التي يريدها المرء، وتتباين الموارد التي تنتج هذه القوة في مختلف السياقات؛ فإسبانيا استغلت سيطرتها على المستعمرات وسبائك الذهب في القرن السادس عشر، وهولندا تربحت من التجارة والتمويل في القرن السابع عشر، وفرنسا استفادت من كثرة تعداد سكانها وجيوشها في القرن الثامن عشر، والمملكة المتحدة استمدت قوتها ممن سبقها في الثورة الصناعية ومن بحريتها في القرن التاسع عشر، أما هذا القرن فيتسم بثورة فتية في تكنولوجيا المعلومات والعولمة...
اخيرا هناك سبعة عشر بُعداً للاستراتيجية -كما يقول كولن إس. جراي- وهي: الأشخاص، والمجتمع، والثقافة، والسياسة، والأخلاق، والاقتصاد والإمدادات اللوجستية، والمؤسسة، والإدارة، والمعلومات والاستخبارات، والنظرية الاستراتيجية والعقيدة، والتقانة، والعمليات، والقيادة، والجغرافيا، والاحتكاك/ المصادفة/ التوجس، والخصوم، والزمن. وهذه الأبعاد لا مناص منها اليوم في عالم معقد يتسم بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ.