د.محمد بن عبدالرحمن البشر
قبل أكثر من أربعة آلاف عام، وفي الألف الثالث قبل الميلاد، كان هناك لسان جبلي ممتد في البحر المتوسط، يبعد عن مدينة بيروت الحالية نحو اثنين وأربعين كيلو، وكأنه غادة مستلقية لترشف من رضاب حبيبها دون أن تروي صدأها، يغضب عليها حبيبها تارة فيلطمها بكثرة رضابه، أو يتركها هادئة في سبات تستمتع بعليل النسيم كأنه يلامس خدها بأنامله.
بنى الإنسان على تلك البقعة الجميلة مدينة تسمى «بيبلوس»، عاش فيها قوم نجباء، ذوي أصول كنعانية، وأحاطوها بسور قرب البنيان، ثابت الأركان، وكما هي العادة عند الإنسان القديم، الذي أخذ يتلمس من يلجأ إليه عند الشدائد، إلى أن جاء أبونا إبراهيم عليه السلام قبل أربعة آلاف عام، ليحيي في النفوس عبادة الواحد القهار، كما من قبله من الأنبياء مثل نوح وإدريس، عليهما السلام.
كان هناك معبود قديم عند الكنعانيين يقال له «عشتارت» لكن أهل هذه المدينة القابعة بغرب الجبل سموه «بعلات جبل» والتفت المدينة حول المعبد الذي يوجد به هذا المعبود، وكان هو مصدر إلهامهم، كما هي عادة أسلافهم، واختار علاة القوم منهم أن يسكنوا في بيوت كبيرة أنيقة تطل على البحر، والنسيم العليل ينفث سحره، والسحاب يحجب الشمس تارة، ويكتف عنها تارة أخرى، وكأنه يحكي ما قاله الشاعر السبني فيما بعد:
يومٌ لهُ فضلٌ على الأيّامِ
مزجَ السَّحابُ ضياءَهُ بظَلامِ
والبَرقُ يخفِقُ مِثلَ قلبٍ تائِهٍ
والغَيمُ يبكي مثلَ طَرْفٍ هامِ
وكأنَّ وجهَ الأرضِ خَدُّ مُتَيَّمٍ
وُصِلَتْ سُجومُ دُموعِهِ بسِجامِ
فاطلُبْ لِيَومِكَ أربَعاً هُنَّ المُنى
وبِهنَّ تَصفو لذَّةِ الأيّامِ
وَجهَ الحَبيبِ ومَنظَراً مُستبشِراً
ومُغِّنياً غَرِداً وكأسَ مُدامِ
ولا أظن الشاهر السبني محقاً، فصفو الأيام يكون في الإيمان بالله، والأمن، والصحة، والتوفيق.
أما بقية سكان هذه المدينة الجميلة فهم يتكدسون في مباني صغيرة متزاحمة، على جوانب شوارع ضيقة ملتوية، لكنهم يحصلون على كل ما يحتاجونه من مأكل، ومشرب، ومأوى، وخلفهم تقع جبال لبنان الشاهقة المكتظة بأشجار الأرز، التي تستخدم في تشييد المباني، وبناء السفن وغيرها، نظراً لقوتها، وجمال منظرها، ولهذا كان سكان «بيبلوس» تجار أخشاب ونجارة ماهرين.
عندما قامت الحضارة الفرعونية المصرية في الألف الثالث قبل الميلاد، كانت مدينة «بيبلوس» قائمة مزدهرة، ولم تكن الحضارة المصرية متدرجة كما هي الحال في العراق والشام بل ظفرة هائلة في فترة وجيزة استمرت قروناً، وقادتها شغوفون بالبناء والتشييد، وتقديس الأجداد، والإيمان بالبعث بعد الموت، ولأجل هذا بنيت الأهرامات، ليرقد فيها الموتى وبجانبهم بعض حوائجهم، بعد وضعهم في تابوت خشبي، لأجل هذا كانت تطلعاتهم إلى «بيبلوس» في الشمال، حيث يتواجد بكثرة شجر الأرز المميز نظراً لافتقار مصر إلى مصدر أخشاب داخلي.
نجد لدى الأسرة الأولى الفرعونية توابيت مصنوعة من شجر الأرز، مما يدل على أن تجارة الأخشاب بين لبنان ومصر قد بدأت منذ الأسرة الفرعونية الأولى، لكن من الصعب تحديد الوقت، وأول فرعون قام بتلك التجارة، لكنها فيما بعد أصبحت تجارة رائجة ومنتظمة، وأصبح طريق البحر مأموناً، نظراً للعلاقات الدبلوماسية والتجارية الجيدة بين الطرفين، حتى أن المصريين قد سموا السفينة «مركب بيبلوس»، واستطاع المصريون بكفاءتهم العالية أن يتعلموا بسرعة صناعة السفن من البيبليين، وفي ذات الوقت كسبت «بيبلوس» اللبنانية، الشيء الكثير من مصر في تقنية الهندسة والتصنيع، الذي كانت تتسابق الزمن في سرعتها في وقت بناء الأهرامات، وسوف تنقل بعض العبارات التي تجسد ذلك التوافق والتبادل المصلحي بين الطرفين، فلقد زار مبعوث مصري لبنان، في القرن الحادي عشر قبل الميلاد فكتب «لقد خلق آمون كل البلدان، لكنه لم يخلقها إلاَّ بعد أن خلق مصر التي جئت منها، ولقد فاضت التقنيات والمهارات من هناك، حتى وصلت إلى حيث أقف الآن». واعترافاً من الفينيقيين بقدرة المصريين على إبداعهم في الكتابة، فقد صنعوا لإله الكتابة عند المصريين واسمه «تحوت» تمثالاً سموه «نوت»، كما أن لإله الحرف عند الكنعانيين، واسمه «كوثر» مقراً في مدينة «منف» عاصمة مصر.
الأجمل في هذه العلاقة الدبلوماسية والتجارية بين مصر ولبنان في ذلك الوقت، أنها لهم تكن وليدة غزو مسلح، أو حروب، بل احترام متبادل ومصالح مشتركة.
لقد كانت الوفود المتبادلة بين الطرفين تحمل معها الهدايا والمنح والعطايا، لرئيس الدولة، أو الشيخ، وهدايا أخرى للمعابد والأضرحة المقدسة عند كل طرف، ولقد أظهرت الآثار في لبنان أواني كثيرة منقوشة على المرمر تحمل اسم فراعنة مصر.
لقد بنى الأوائل نموذجاً للعلاقات الدبلوماسية والتجارية بين الدول، لكن ذلك لم يلبث أن تغير مع تتابع الأجيال والأحوال.