الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
من المعروف أن غياب ثقافة الوقف ومقاصده الشرعية عن الجمهور العام، وانحصار المعرفة بهذه الثقافة على فئة محددة من المتخصصين، تؤدي في حالات كثيرة إلى الحد من دوره في خدمة المجتمع وحل مشكلاته، بل وتراجعه وانحساره في قنوات معينة.
والدين الإسلامي يحثنا ويدعونا إلى التنويع في أبواب الخير وتوزيع مصارفه، فكيف نعيد للوقف وظيفته الأساسية التي شرع لها، وأن نوجهه لخدمة قضايانا وحل مشكلاتنا، وما دور المؤسسات الوقفية في نشر ثقافة الوقف في المجتمع؟
كانت تلك التساؤلات التي طرحتها «الجزيرة» على عدد من المختصين والمهتمين بالشأن الوقفي.. فماذا قالوا؟
المنتج العظيم
بداية يوضح الدكتور فهد بن عبدالرحمن اليحي أستاذ الفقه بجامعة القصيم أن الوقف منتج من منتجات الإسلام العظيمة ولم يسبقه إلى تشريعه حضارة أو ديانة، ولذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: «لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارا ولا أرضا تبررا بحبسها وإنما حبس أهل الإسلام «فالوقف بخصائصه وأحكامه لم يكن معهودا، وكذلك في الحضارات المعاصرة ليس ما يسمى وقفا هو معنى الوقف في الإسلام من حيث أحكامه التي ينفرد بها عن سائر التبرعات ويمنحه ميزة تتشوف النفوس لها. وهذا المنتج العظيم لا ينبغي أن نخلطه بسائر التبرعات فيفقد تلك الميزات ويخبو توهجه في الأفئدة بل علينا أن نبتكر منه بخصائصه صورا وأشكالا تعالج بعض ما نحتاج إليه إن على مستوى الفرد أو المجتمع أو الدولة.
وعلى المؤسسات الوقفية -مع ما لها من جهود مشهودة مشكورة- أن تسد الثغرات التي لم تسد أبداً أولم تسد بما يكفي وليس أن تتنافس في تكرار صور وأشكال ونماذج مكررة، ومن الجميل أيضا أن تتنوع تخصصات تلك المؤسسات الوقفية ما بين مؤسسات علمية وتعليمية وتثقيفية وتدريبية وإعلامية ومؤسسات كبرى لإدارة الأوقاف وتنميتها، وغير ذلك.
والناس بحاجة إلى تقريب ثقافة الوقف وأحكامه بلغة بسيطة واقعية باستثمار الوسائل الحديثة للنشر الإعلامي الاجتماعي، فلو أن إحدى المؤسسات انتهجت هذا اللون من التوعية على هيئة مقاطع قصيرة (جرافيكس وأشباهها) فستجد من أهل العلم التعاون في هذا الشأن -بإذن الله-، وهكذا الأفكار الأخرى.
برامج ودورات
ويقول الدكتور خلف بن علي العنزي، رئيس لجنة الأوقاف بالغرفة التجارية الصناعية بعرعر، والمستشار السابق بوزارة العدل «إن الوقف ركيزة أساسية من ركائز التنمية في المجتمع، وقد حث الشرع الحكيم عليه ورغب فيه لما فيه من الأجور العظيمة المستمرة للموقف، إلا أن الملاحظ أن ثقافة الوقف والمقصود بذلك: معرفة ماهية الوقف وأدلته من الكتاب والسنة، وفهم معانيه، ومقاصده ومآلاته، وأنواعه، وصياغة الوثائق الوقفية بما يحقق الغرض من وقف الواقف للوقف، وشروط وضوابط تعيين النظار، والمهام المطلوبة منهم، قد تخفى على الكثير من الناس، وأن هذه المعارف منحسرة بفئة محددة من المجتمع ممن لهم اهتمام بالوقف والقراءة وإجراء البحوث العلمية فيه، ومن الممارسين الفعليين من خلال المؤسسات والمراكز والشركات الوقفية. أدى ذلك الانحسار لدى معظم الناس إلى قلة الأوقاف وعدم تنوعها، مما قلل من فاعلية ودور الوقف في المجتمع كرافد اقتصادي مهم ودائم، يسهم في جميع أنواع التكافل الاجتماعي وتنمية المجتمع، ونشر المعرفة، وغير ذلك من إسهامات الوقف العظيمة في المجتمع.
ولكي يعود الوقف لدوره الرائد في المجتمع الذي ازدهرت به الحضارة الإسلامية قروناً طويلة، داعماً لاحتياجات المجتمع كافة، فلابد من: نشر ثقافة الوقف وبيان أهميته ودوره، لدى جميع أفراد المجتمع، ويتأتى ذلك من خلال المؤسسات والشركات والمراكز المتخصصة، والهيئة العامة للأوقاف، ومن وجهة نظري أن أدوارها في هذا الجانب يتلخص في:
عدم اقتصار نشر ثقافة الوقف على المهتمين والمتخصصين في ذلك، فلابد من عمل برامج ودورات لتشمل أفراد المجتمع كافة، ليكونوا مساهمين في نفع أنفسهم أولاً فيما يعود عليهم بالأجور والبركات والخيرات في الدنيا والآخرة، وثانياً بما يسهم في تنمية مجتمعاتهم، ويكون ذلك: عن طريق عقد الشراكات المجتمعية مع الجامعات، وإدارات التعليم، ووزارة الموارد البشرية، واستغلال وسائل التقنية الحديثة في نشر ثقافة الوقف من خلال الرسائل ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، والأفلام القصيرة الهادفة، والتطبيقات العملية.
برامج توعوية
ويؤكد الدكتور محمد بن سعد الحنين الأستاذ المساعد بكلية الشريعة بالرياض أن الوقف يتميز بأنه خيري المقصد، إنساني الغاية، عالمي الأبعاد، له خصائصه التي لا تكاد أن توجد في المشاريع الخيرية الأخرى؛ ولذلك كان له أثر في خدمة المجتمع وحل مشكلاته، وبقائه على قرون متعاقبة دون الزوال: والمتتبع لمدونات التاريخ، وكتب الرحلات يجد أمثلة كثيرة ومتنوعة لإسهامات الوقف الحضارية.
يشير المؤرخ القزويني إلى أنه تم إنشاء أوقاف تصرف غلتها على العميان فهم حينما حرموا نعمة البصر لم يحرموا من أوقاف خاصة بهم تساعدهم وتعينهم على نوائب الدهر، بل وجد ما هو ألطف صورة من ذلك في جانب الرعاية النفسية للمرضى، فقد ذكر بعض الباحثين أنه قد تم تخصيص وقف يصرف على شخصين يقومان بزيارة المشفى، ويتحدثان إلى جانب المريض بصوت خافت يسمعه؛ قصد إيحائه بتحسن صحته وقرب عافيته، كما يشير الفاسي إلى أن (قهرمانة) الخليفة العباسي (المقتدي) قد أوقفت رباطاً يسمى (الفقاعية) في مكة المكرمة سنة (492هـ) خصصته للأرامل النساء فقط. يقوم بإسكانهن ومأكلهن ومشربهن. ولذا لا غرابة أن نجد العودة إلى الوقف في الأزمنة المعاصرة، باعتباره رافدا مهما للتنمية الاجتماعية المستدامة من خلال الأفراد أو المؤسسات الخيرية أو المراكز البحثية الوقفية.
بيد أن هناك جملة من المهمات لا بد من الإشارة إليها ليقوم الوقف بوظيفته ودوره الاجتماعي والحضاري:
1- ضرورة إعداد برامج توعية لنشر الثقافة الوقفية بين أفراد المجتمع حول أهمية الوقف ودوره في التنمية الاقتصادية وتنوع مجالاته، وذلك من خلال وسائل الإعلام المختلفة.
2- إنشاء لجنة من الجهات المعنية للتنسيق بين المؤسسات الخيرية الوقفية؛ للتبادل المعرفي في الجانب العلمي والفقهي والإداري، وللاستفادة من الإنجازات العملية، والإطلاع على المبتكرات.
3- عقد عدد من اللقاءات العلمية المتنوعة في مجال الوقف بين عدد من الباحثين والخبراء، سواء على صعيد المؤتمرات، والحلقات الدراسية، والندوات، والورش التدريبية، والمسابقات وغيرها للتصدي للمشكلات والأزمات الاجتماعية.
4- تفعيل نمط (المؤسسة الوقفية التشغيلية) لإدارة المؤسسة الوقفية؛ وهي التي تسعى لتقديم السلع والخدمات بشكل مباشر إلى الجمهور عبر المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية المختلفة؛ لأسباب متعددة منها: قدرة المؤسسة التشغيلية؛ على الاستفادة القصوى من الأموال الوقفية، وتلافياً للإشكالات التي تتلبس عادةً بعمل المؤسسات الوقفية المانحة، ويمكن من خلاله حل بعض المشكلات الاجتماعية: التي تتصل بالإسكان، أو الصحة، أو التعليم وغير ذلك.
5- إعداد برنامج نظري تخصصي في علم إدارة المؤسسات الخيرية والوقفية.