حمّاد السالمي
إذا كنت تشعر أنك أعلى شأنًا من بعض قرابتك وأصدقائك؛ بما لك من مال وجاه ومنصب وشهادة علمية ونحو ذلك؛ وترغب أن (تخسرهم).. بمعنى أوضح؛ تريد أن تقاطعهم فتنساهم وتفقدهم..؟ إليك إذًا هذه الوصفة السهلة.
ولكن قبل ذلك.. هل يوجد من لديه هذه الرغبة حقًا..؟ نعم.. ما أكثر الذين يظنون أن معرفتهم وصداقتهم بفلان وفلان من الناس؛ لم تعد ذات جدوى في مرحلة من مراحل الحياة، ولهذا يعمد إلى إهماله ومجافاته، ثم يتناساه فينساه، فيخسره بإرادة حرة منه.
قبل الدخول في تفاصيل الوصفة (الخسائرية) هذه؛ لنتذكر جيدًا؛ أن الكاتب الأمريكي) ديل كارنيجي ت 1955م)؛ كتب كتابًا عنوانه: (كيف تكسب الأصدقاء)، وصدر لأول مرة عام 1936م، وهو من أكثر الكتب رواجًا في العالم، فقد بيع منه أكثر من 50 مليون نسخة، وترجم إلى العديد من اللغات، وأطروحة الكتاب الرئيسة؛ تقوم على كيفية اكتساب الأصدقاء في ضوء النظريات الحديثة في علم النفس. عرض فيه جملة من النصائح المهمة لكسب ود الآخرين فقال: ابدِ اهتمامًا كبيرًا بالناس. ابتسم. تذكر أن اسم الشخص بالنسبة له هو أحلى وأهم صوت في أي لغة. كن مستمعًا جيدًا وشجع الناس على التكلم عن أنفسهم. تكلم عن الأشياء التي يهتم الناس بها. اجعل الناس تحس بأنها مهمة. اهتم بهم وافعل كل ما يحبونه، وقم بمساعدتهم إذا احتاجوا لك. لا تنتقد ولا تدين ولا تشتك. اعط الناس الشعور بالأهمية، وامدح ما تراه جيدًا فيهم. اجعل الناس تفعل ما تريده منهم بإثارة رغباتهم. كن نزيهاً؛ فالحق يعلو ولا يعلى عليه. تجنب الجدال. اظهر الاحترام لرأي الشخص الآخر، ولا تقل أبدًا لأحد أنه مخطئ. لو كنت مخطئًا؛ اعترف بسرعة. تحدث بطريقة ودودة. ابدأ بالأسئلة التي سيتم الإجابة عنها بنعم. اجعل الشخص الآخر يتكلم. حاول أن ترى الأشياء من وجهة نظر الشخص الآخر. اظهر تعاطفك مع الآخرين. شاركهم أحزانهم وأفراحهم. كن معهم في وقت الشدائد والصعاب. إلى غير ذلك من الوصايا المهمة في هذا الاتجاه الإنساني النفسي.
أعرف أن كل من يقرأ هذه الوصايا المحبِّبة في الصداقة والمساعدة على كسب الأصدقاء؛ سوف يقول: بأنه من السهل خسارة الأصدقاء بعكس الاتجاه. بمعنى.. أنه لكي تخسر أصدقاءك؛ ما عليك سوى أخذ وصايا (ديل كارنيجي) بعكسها. في هذه الحالة؛ سوف ينفر منك أصدقاؤك، وتخسرهم بأقل الخسائر..!
المسألة لا تُقاس بهذه الطريقة في كل الحالات، ولكن لماذا يعمد بعض الناس إلى خسارة الأصدقاء بدل الاحتفاظ بهم وكسب المزيد منهم..؟! هذا هو السؤال، وهنا مربط فرس علم النفس؛ الذي لم يصل إليه (ديل كارنيجي)، وهو السابق إلى سبر أغوار النفس البشرية الميّالة بطبعها للأنس بالآخر، والتقرب إلى المزيد من البشر في العلاقات الإنسانية في كل مكان.
لنفترض أن زيدًا أو عمرًا من الناس ولد في مكان ما من هذه الأرض، فسكن وجاور ودرس وتعلم وعمل وترقى في مسار حياته، فظل يومًا بعد يوم؛ يعرف من بعد قرابته المزيد من زملاء الدراسة والمساكنة والعمل والسفر ونحو ذلك، ويملك قائمة عامرة بالأسماء التي لا تُنسى في العادة، لكنه في مرحلة ما من حياته؛ جدت عليه ظروف ومتغيرات، إما مرضية نفسية؛ أو حياتية وعملية وغيرها، فإنه سرعان ما تصبح هذه القائمة عنده؛ قابلة للمراجعة والحذف منها، والتماهي مع شيء من العزلة والوحدة إن كانت حالته مرضية نفسية- وهذا قد يُعذر- أو إحاطة نفسه بسياج من التعالي والفوقية، بفعل الوجاهة والمال، أو نتيجة لبريق الشهادة العلمية التي نالها، أو الوظيفة العليا التي حازها، فما عاد أحد من بين قائمة أصدقائه القدامى؛ جدير بأن يتذكر اسمه، أو يذكر أيامه معه، أو يسمعه في الهاتف، أو يقرأ رسالة منه؛ عوضًا عن أن يراه، أو يقدم له خدمة..!
ليس كل الناس بطبيعة الحال بهذه الحال القميئة التي نصفها عن زيد أو عمرو. لكن من المؤكد أن بيننا زيد كثير وعمرو كثير بمثل هذه القماءة وأكثر. أنا شخصيًا أعرف أكثر من زيد وأكثر من عمرو على هذه الشاكلة، لكني والحمد لله؛ أعرف من يعرف قيمة الصداقة، ويقدر الصحبة والأخوة، وعندي قائمة تجعل مثل زيد وعمرو؛ نقطة في بحر لا تُرى، وكل منا مرّ ويمرّ بهذه التجربة في حياته، فهذه سنة الحياة. ليس كل صديق في هذه الحياة صدوق صادق. فهم على ما قال الإمام الشافعي:
فما أكثر الإخوان حين تعدهم
ولكنهم في النائبات قليل
إن من يملك نزعة التجبُّر والتكبُّر والتنكُّر للأهل والأقارب والأصدقاء، لن يجد أسهل من الخريطة التي رسمها (ديل كارنيجي) لكسب الأصدقاء فيعكسها، وإذا أراد أن يقنع نفسه أكثر بما يفعل؛ فربما وجد في ماله ووجاهته ومناصبه وحاله؛ ما ينسيه قرابته وصحابته وصداقاته. وعلى من كان ذات يوم قريبًا أو صديقًا لمن تكبر عليه، وتنكر له فنساه وخسره؛ أن يردد مع الإمام الشافعي قوله:
إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلّا تَكَلُّفاً
فَدَعهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا
فَفي الناسِ أَبدالٌ وَفي التَركِ راحَةٌ
وَفي القَلبِ صَبرٌ لِلحَبيبِ وَلَو جَفا
فَما كُلُّ مَن تَهواهُ يَهواكَ قَلبُهُ
وَلا كُلُّ مَن صافَيتَهُ لَكَ قَد صَفا
إِذا لَم يَكُن صَفوُ الوِدادِ طَبيعَةً
فَلا خَيرَ في وِدٍّ يَجيءُ تَكَلُّفا
وَلا خَيرَ في خِلٍّ يَخونُ خَليلَهُ
وَيَلقاهُ مِن بَعدِ المَوَدَّةِ بِالجَفا
وَيُنكِرُ عَيشاً قَد تَقادَمَ عَهدُهُ
وَيُظهِرُ سِرّاً كانَ بِالأَمسِ قَد خَفا
سَلامٌ عَلى الدُنيا إِذا لَم يَكُن بِها
صَديقٌ صَدوقٌ صادِقُ الوَعدِ مُنصِفا