اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
السعاية هي أخطر أشكال النميمة، وأعظمها حرمة وإثماً، لما تتسم به من النكاية والقسوة التي يتعرض لها المسعي به، وتسمى سعاية أو وشاية لأن الأسلوب الذي يمارسه الساعي يتفق مع الأسلوب الذي يمارسه الواشي، والفرق بينهما يبرز أكثر في مكانة ومستوى الذي يُسعى عنده والمستهدف من السعاية أو الوشاية، والاختلاف بين السعاية والنميمة يكمن في قسوة السعاية وشدة تأثيرها لكونها تكون لدى من يُخشى خطره ويحسب حسابه من أصحاب السلطة والسطوة بغية الإيقاع بالمسعي به وتدمير حياته، وغالباً ما يكون هذا المسعي به محسوداً أو محقوداً عليه من قبل من يسعى به.
والسعاية تعد سلوكاً ذميماً ورذيلة من أقبح الرذائل بسبب ما يقع فيه الساعي من الفساد والإفساد، وما يرتكبه من عمل آثم وجناية مدمرة تكشف عما يتخلق به من الشر والخبث وسوء الصنيع إلى الدرجة التي دفعته إلى السعاية والإيقاع بالمجني عليه إرضاء لما يتملكه من الحسد والكيد.
وإذا ما استثنينا فظاعة الجناية التي يقترفها الساعي والسمات التي يمكن عن طريقها التمييز بين السعاية والوشاية، فإن الساعي شأنه شأن الواشي الذي جعل من تتبع عورات الناس وإحداث الوقيعة بينهم والوقوع في أعراضهم وقطع أرزاقهم صفة يتصف بها ومثلبة يُعرف بها، حيث إن مَنْ هذا حاله يكون بالسعاية معروفاً وبالوشاية موصوفاً، معرضاً نفسه لأنواع الشرور والويل والثبور من جراء هذه الآفة وسوء الأحدوثة، وهو أمر ينفر منه الكرام الذين يجدون في تعاليم الدين ومكارم الأخلاق ما يهديهم إلى الهدى، وينأى بهم عن السقوط في مهاوي الردى.
والسعاية والوشاية دائماً يحاول عن طريقهما كل من الساعي والواشي الترويج لأقوال الزور، وكشف ما وراء الستور، وايغار الصدور، مثيراً الفتنة، ومؤججاً العداوة بين الناس بطريقة أقل ما يقال عنها بأنها قبيحة حتى لو كانت صحيحة، لما فيها من انتهاك الحرمة، وكشف العورة في بيئة موبوءة، يختلط فيها الحابل بالنابل، حابل السعاية ونابل الوشاية اللذان لا ينفك كل منهما عن الرذائل المتمثلة في النميمة والغيبة والبهتان والكذب والحسد والنفاق والغدر والخيانة وغيرها. وقد تطرق القرآن الكريم إلى الغيبة والنميمة في عدد من الآيات منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الآية 6 سورة الحجرات) وقال عليه الصلاة والسلام «إياك ومهلك الثلاثة» قيل: وما مهلك الثلاثة؟ قال: «رجل سعى بأخيه فقتله، فأهلك نفسه وأخاه وسلطانه»، وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يرفع إلينا عورة مسلم» وقال علي بن أبي طالب لأحد ولاته: تغاب عما لا يتضح لك، ولا تعجل إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاش وإن تشّبه بالناصحين، وقال في السعاة: كفى أن الصدق محمود إلا منهم وأن أصدقهم أخبثهم، وقال مصعب بن الزبير: اتقوا الساعي، فلو كان صادقاً في قوله، لكان لئيماً في صدقه، حيث لم يحفظ الحرمة، ولم يستر العورة، وقد قيل: الساعي غاش وإن قال قول المتنصّح.
والسعاية والوشاية مرض خطير، ما انتشر في مجتمع إلا أفسده، لما ينشأ بسببهما من عداوات، ويثيرانه من أحقاد، تكون نتيجتها تفشي الكراهية والتباغض والتناحر، وما يؤول إليه ذلك من مآلات مدمرة، تطال الفرد والمجتمع على حد سواء، الأمر الذي يستدعي محاربة كل من الساعي والواشي وإصلاح المجتمع وتحصينه ضد السعاية والوشاية، نزولاً من الأعلى إلى القاعدة، وقد طلب أحدهم من الخليفة عبدالملك بن مروان الخلوة، فقال لأصحابه: إذا شئتم، فلما تهيأ طالب الخلوة للكلام، قال له عبدالملك: إياك أن تمدحني فإني أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأي لكذوب، أو تسعى إليّ بأحد، وإن شئت أقلتك، فقال: أقلني فأقاله، ودخل رجل على عمر بن عبدالعزيز، فذكر له عن رجل آخر شيئاً، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية {همَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} وإن شئت عفونا عنك فقال العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً، ووشى واشٍ بآخر إلى الاسكندر فقال له: أتحب أن نقبل منك ما قلت فيه، على أن نقبل منه قوله فيك؟ فقال الواشي: لا، فقال له الاسكندر: فكف عن الشر، يكف الشر عنك، وقد قال الشاعر:
ومن يطع الواشين لا يتركوا له
صديقاً وإن كان الحبيب المقربا
وقال آخر:
إذا الواشي بغى يوماً صديقاً
فلا تدع الصديق لقول واشٍ
وثمة من أصحاب الرتب والمراتب من يتعامل مع السعاية بوصفها رواية مبررة يطلبها ويجيزها، بدون تمحيص خبرها ومعرفة مصدرها، مستنداً إلى أن المصلحة العامة تتطلب ذلك، وهذا الاعتقاد يحتاج إلى نظرة فاحصة ومتأنية، تحسب لكل أمر حسابه، وتضعه في نصابه، وفقاً لكل حاله وملابساتها، والمواقف والظروف واعتباراتها مع الموازنة الدقيقة بين لزوميات درء المفاسد ومتطلبات جلب المنافع، والضرورات وما يقابلها من محظورات من وجهة نظر دينية وأخلاقية وإنسانية، وسيرة الأخيار، تؤخذ منها العبرة والاعتبار، وفيها ما يساعد على ضبط المسار، كما هو الحال بالنسبة للصاحب بن عباد عندما أتاه أحدهم ومعه رقعة يخبره فيها بوجود أرض ذات مساحة واسعة لأحد الايتام لا يعرف عنها ذلك اليتيم، وينصح بضمها إلى أملاك الدولة، فكتب على ظهرها الصاحب بن عباد: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، ولولا كبر سنك لعاقبناك، فالميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله، والفضل بن سهل في حالة مشابهة كتب على رقعه ساعٍ: نحن نرى قبول السعاية شراً منها، لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس مَنْ دل على شيء وأخبر به كمن قبِله وأجازه فاتقوا الساعي فإنه لو كان في سعايته صادقاً، لكان في صدقه آثماً، إذ لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة، وكان يكره السعاة، وإذا أتاه ساعٍ يقول له: إن صدقتنا أبغضناك، وإن كذبتنا عاقبناك وإن استقلتنا أقلناك.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، والأمر يستدعي ما قرع بابه وجذب أهدابه، ولكون السعاية والوشاية تتفاعل مع الغيبة على نحو يغذي كل منهما الآخر فإن هناك حالات تباح فيها الغيبة، وجائزة شرعاً لأغراض صحيحة يصعب تحقيقها إلا بذلك، فالمظلوم يجوز له أن يوضح مظلمته لولي الأمر أو مَنْ يقوم مقامه من أصحاب الِشأن من أمير أو قاضٍ، وكل من له قدرة على رفع الظلم، كما يباح لمَنْ شاهد منكراً أن يوضح ذلك لمن له ولاية وقدرة على تغيير المنكر، وتصحيح وضع العاصي وزجره، ومن الحالات التي تسقط فيها الغيبة طلب الفتوى في قضية ظلم ما إذ من حق المستفتي أن يبين ما حصل له من ظلم للمفتي ليرشده، ومن الأفضل التعريض إذا أمكن.
ويضاف إلى ما سبق من الحالات المباحة الغيبة فيها شرعاً تحذير المسلمين من الشر واسداء النصيحة لهم ومن ذلك طعن من يستحق الطعن من الرواة والشهود، والاستشارة بشأن مصاهرة أو معاملة أو مجاورة وما في حكم ذلك، ومن أوجه التحذير نصيحة المتفقه الذي يتردد إلى ملحد أو فاسق يأخذ منه العلم، ومن الحالات التي لا غيبة فيها ذكر المجاهر بالفسق أو البدعة بما يجاهر به، وعندما يكون الانسان معروفاً بلقب فلا باس من التعريف بهذا اللقب إذا اقتضت الضرورة، وقد أورد الشاعر هذه الحالات في قوله:
القدح ليس بغيبة في ستةٍ
متظلم ومعرفٍ ومحذرٍ
ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومَنْ
طلب الاعانة في إزالة منكرٍ
وفي الختام فإن الإنسان يتعين عليه أن يصلح نفسه قبل أن يطلب صلاح غيره، واللسان هو أحد أعضاء الإنسان التي تحتاج إلى الإصلاح، إذ بصلاحه تصلح جميع الجوارح لصلته الوثيقة بالعقل، ودلالته على ما في القلب، وعلى ضوء ذلك يستمد ما يقول وفقاً لوظائفه التي خلقه الله من أجل القيام بها، والتقصير في تأدية هذه الوظائف يقلل من شأن الانسان، وينعكس سلباً على سلوكه واخلاقه، كما أن الانحراف عنها يؤدي الى التهلكة، والانسان بخير طالما فك كفه بالخير وكف فكه عن الشر، ومن أفضل ما يتكلم به العاقل ألا يتكلم إلا بحجته أو حاجته والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو سكت فسلم.