د. عبدالحق عزوزي
تتخذ السلطات الأوروبية خططًا صحية لمواجهة أي موجة ثانية لوباء «كوفيد-19»، تشمل ثلاث نقاط أساسية بدءاً من الوقاية من انتشار الفيروس عبر احترام مسافة التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات الواقية وغسل الأيدي بالسائل المعقم. إلى جانب ذلك جعلت تلكم الدول من إجراء الفحوص الطبية على نطاق واسع في المستشفيات والصيدليات للكشف عن الإصابات المحتملة، أولوية، وأيضاً توفير كل المستلزمات الصحية اللازمة لمواجهة أي طارئ، وذلك بتوفير تحاليل الكشف الطبية والكمامات الواقية بشكل كافٍ. وقد ترك التسونامي الصحي الذي عصف بأوروبا وبالعالم تداعيات جسيمة على حياة البشر واقتصاديات دوله؛ وبدأت تتغير أمور كثيرة فيما بعد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً وطبياً؛ وستصبح الصحة والاستثمار في هذا المجال من أولويات الدول بأسرها وستتغير علاقات الدول فيما بينها وعلاقة الأفراد بالمجتمعات وبالطبيعة ونوعية العلاقات داخل المجال السياسي العام..
وفي هذا الصدد توصل قادة الاتحاد الأوروبي مؤخراً إلى اتفاق على خطّة تاريخية للنهوض الاقتصادي في مرحلة ما بعد جائحة كورونا، وذلك بعد مفاوضات شاقة في بروكسل استمرت أربعة أيام وأربع ليالٍ وتميزت بتباعد في المواقف بين دولها. وتبلغ قيمة الخطة 750 مليار يورو سيتم تمويلها بقرض جماعي.
وتنص الخطة على صندوق بقيمة 750 مليار يورو دعمًا للاقتصاد الأوروبي الذي يواجه ركودًا تاريخيًا، يمكن للمفوضية الأوروبية اقتراضها في الأسواق. ويتوزع هذا المبلغ بين 390 مليار دولار من المساعدات و360 مليار يورو من القروض.
وتمنح المساعدات للدول الأكثر تضرراً جراء وباء «كوفيد- 19»، وهي تمثل ديناً مشتركاً يتعين على الدول الـ27 سداده بصورة جماعية. أما القروض، فيتعين على الدول المستفيدة منها سدادها.
وإصدار هذا الدين المشترك هو أول خطوة من نوعها يتخذها الاتحاد، ويقوم على اقتراح فرنسي ألماني اصطدم بمعارضة شديدة من قبل الدول «المقتصدة»، وهي هولندا والنمسا والدانمارك والسويد، وانضمت إليها فنلندا. كما تضاف الخطة إلى ميزانية الاتحاد الأوروبي البعيدة الأمد لفترة 2021-2027 والبالغة قيمتها 1074 مليار يورو توزع إلى 154 مليار يورو في السنة.
وهددت في إطار هاته القمة الأوروبية الصعبة، الدول «المقتصدة» التي يسميها البعض بـ»البخيلة» بإفشال خطة النهوض الاقتصادي التي تستفيد منها بصورة خاصة دول الجنوب مثل إيطاليا وإسبانيا، وهي الدول الأكثر تضررًا جراء وباء «كوفيد- 19» ناهيك أنهم يعتبرونها شديدة التساهل على الصعيد المالي.
كما هي العادة في مثل هاته القمم التي تخرج بنجاح، وبعد اجتماعات ماراطونية صعبة، رحب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بـ»يوم تاريخي» للاتحاد الأوروبي، فرأى ماكرون أنه «تغيير تاريخي لقارتنا الأوروبية ومنطقة اليورو» فيما أعربت ميركل عن «ارتياحها الكبير»، إذ أثبتت أوروبا بعد مفاوضات صعبة أنه «ما زال بالإمكان التحرك معاً».
وهاته العودة الملفتة للدور الثنائي الفرنسي الألماني بعد أشهر من العلاقات الباردة، أنعشت المشروع الأوروبي نفسه بعدما عانى ولا يزال من أزمة «كوفيد- 19».
فرغم الذي يمكن أن يكتب ويقال، فإن الاتحاد الأوروبي يشكل وحدة مؤسساتية ونقدية قل نظيرها رغم الأزمات المتتالية التي تعتريها؛ وهو عبارة عن مشروع فكري وحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح حقيقة ومشروعًا سياسيًا حقيقيًا بمؤسسات قوية تجمع رؤساء دول ووزراء حكومات وخبراء وبرلمانيو الأمم؛ ورغم تباين دولها من حيث درجة التقدم الاقتصادي والمالي والفلسفة السياسية والاجتماعية السائدة، فإنها استطاعت مجتمعة من خلال حكمة بعض من أعضائها والمبادئ الوحدوية السامية من إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وساهمت في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية حقيقية، وتحويل أسواق الدول المشتركة في حركة التكامل والاندماج الأوروبي إلى سوق داخلية واحدة. وتمكن الاتحاد الأوروبي من تحقيق هاته المنجزات وغيرها بفضل عوامل الثقة السائدة، وبفضل عوامل سياسية وعوامل اقتصادية وعوامل تشريعية.
كما أن الأزمات التي يمر منها الاتحاد الأوروبي هي طبيعية في سيرورة مثل هاته التكتلات. وأي تكتل لا بد وأن تعتريه بعض المحبطات، المهم هو كيف يمكن أن يتجاوزها وما هي الدول المحورية التي تعتبر مظلات حامية؛ وفي حالة الاتحاد الأوروبي تشكل ألمانيا وفرنسا (رغم ثلاثة حروب قاسية بينهما في تاريخهما المشترك) الدولتين الرئيسيتين اللتين تقودان بطريقة مباشرة وغير مباشرة سفينة الاتحاد الأوروبي....