د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كان العيد فيما مضى له طعمه ومذاقه، ومر علينا عيد الفطر المبارك الماضي، والجميع قد لزم منزله بسبب كورونا، وكان له أيضاً طعم مستساغ، وذكرى ستبقى عالقة في الأذهان تتناقلها الأجيال، كما نحن اليوم نقرأ عن أيام قد مضت، لأجيال سلفت، وهكذا الدنيا، تدور وتحمل في صفحاتها كثيرًا من الآثار والمآثر والعبر، وستعبر بعبرها فمن شاء أن ينتفع فله ذلك، ومن شاء أن ينسى، أو يتناسى فهذه خطة قد اختطها، وهو أدرى بنفسه.
في هذا اليوم، نحتفل بعيد الأضحى المبارك، نحتفل بطريقة تختلف عما سبق، وإن كان الباب قد فتح لانفراج وتجمع حذر، مع أخذ الاحتياطات اللازمة، سيكون هناك لقاء وتجمع وسلام مع تباعد، والكمامات قد تكون على الوجوه، ونهج فيه من الغرابة والجمال ما يعطيه تميزاً عما سبق، ونحن نعلم أن الاحتفال بعيد الأضحى، هو فرح ومرح، وسعادة وترفيه عن النفس، لكنه أيضاً زيارة قريب أو اتصال به، لمن آثر الحذر وتجنب التجمع، لا سيما عند كبار السن أو المرضى، وهو أيضاً، فيه ذبح الأضاحي تقرباً لله، وذكر ودعاء، وتكبير وتهليل، وخوف ورجاء، وعبرة واعتبار، ولعل أعظم عبرة في الأضحية هي الطاعة المطلقة من إبراهيم عليه السلام لربه، بعد أن رأى في المنام أن يذبح ابنه بأمر من الله، فطاعة الرب مع اليقين المطلق أن الله أعلم بكل شيء، وبما فيه خير، والثقة بالله في ذلك درس من الدروس العظيمة، وسواء كان الذي افتداه ربه إسحاق كما تقول التوراة، أو إسماعيل، كما يقول الأثر الإسلامي، فإن العبرة في طاعة الله مع اليقين بأن ما يأمر به كله خير، وهو أعلم بصالح خلقه.
نقرأ سورة الكهف ونرى فيها من العبر الشيء الكثير، وقصة موسى مع العبد الصالح أياً كان اسمه، فيها معانٍ منها، خرق السفينة وسببها، وقتل الغلام، لأن أبويه صالحان، حتى لا يرهقهما طغياناً وكفراً، ويستبدله الله بمن خير لهم منه، وكذلك الجدار، والكنز الذي تحته، حتى يكبر الأيتام ويأخذون حقهم، والقرآن مليء بالعبر لمن يتدبر.
إن كان عيد الأضحى يحمل هذه المعاني فهو أيضاً يحمل الفرح والسرور والسعادة والترويض عن النفس.
وكانت الجواري فيما مضى يغنين، في المناسبات ومنها الأعياد، وهذا أحد حكام الأندلس، قد زار وزيره في منزله، فغنت جارية الوزير:
أحبكم ما عشت في القرب والنوى
وأذكركم في حالة الوصل والصد
على أنكم لا تشتهون زيارتي
قريباً ولا ذكراي في فترة البعد
وقد استحسن الحاكم الأندلسي ما قالته الجارية، فطلب من وزيره الاستجازة، أي أن يقول بيتاً من الشعر حول المعنى، وعلى نفس البحر الشعري، والقافية، لكن الوزير لبق، قال: الابتداء لأمير المؤمنين، فقال:
وأنتم جعلتم مهجتي مسكن الجوى
وأنتم جعلتم مقلتي مسكن السهد
وبعد أن فرغ الحاكم قال الوزير:
ومالي عنكم جرتم أو عدلتم
على كل حال فاعلموا ذاك من بدُّ
وهكذا كان الناس في الماضي يروحون عن أنفسهم في المناسبات، ترويحاً لا يخرج عن حدود ما يسمح به دينهم، وأخلاقهم وقيمهم، وإن كان يحدث في مواضع كثيرة من أيام الأندلس الكثيرة وما يتعداه، فكانت مباهجهم، تفوق الخيال.
والاستمتاع لا يقتصر على اللقاء، بل تجاذب الحديث، وتنوع المآكل والمشارب والنظر إلى الطبيعة بشتى صورها، فالسماء جزء من هذا الكون الجميل، والنجوم الزاهرة تعطي الأمل، وكأنها ثغور مبتسمة، تدعو إلى التفاؤل، والقمر وهو يزهو بين النجوم في منظر بديع قل نظيره، وكأنه عريس بين غادات حسان.
هذا العيد الذي أطل بثغره الباسم يجعلنا نهفو إلى كل جميل فنعشقه، فلا بُدَّ للأشجار أن تكتسي بالخضرة والزهور، وتلبس ثوبها الجميل.
للأطفال متعتهم، وطريقة التعبير عن فرحهم، وقضاء عيدهم في أجمل حلة، وأبهى منظر، وللشباب دروب ومسالك يمكنهم أن يسلكوها ليسعدوا ويقضوا عيدهم في فرح وبهجة وسرور، وهم عماد المستقبل، ووقود التنمية، فيجهدهم تقوم الأمم، وتزدهر، وتتغلب عن الصعاب، وتحد من هيجان كورونا، وتأثيرها على الصحة والاقتصاد العالميين.
جعل الله هذا العيد عيداً مباركاً، وفاتحة خير، وحفظ الله بلادنا وقادتها وشعبها، وجميع بلاد المسلمين والعالم أجمع من كل مكروه.