صالح الناصر العمري
تظل سنوات العمر رقمًا هامشيًا ما دام القلب ينبض والعقل يفكر والعاطفة تتوهج، وتلك هي معطيات الحياة الأساسية جسد وعقل وروح..
وهذه المعادلة الثلاثية لا بد لها من العمل بتوازن يضفي لها استمرارية عطائها كي يعيش الإنسان حياة طبيعية يحقق فيها سعادته المنشودة وأهدافه الحياتية المقصودة..
لقد أضافت لنا حياتنا العصرية مشاغل أكثر ومعها تشعبت اهتماماتنا فأصبح لزاماً علينا إدراك واقعها والتعايش معه وإلا عشناها على الهامش, فالحياة تمضي ولا بد من المضي معها بتوازن ووعي وإدراك، وأهم مقومات التعايش امتلاك أهم المهارات النفسية العليا التي تصعد بالإنسان إلى الاستقرار النفسي والعاطفي في شؤون حياته وتلبي احتياجاته وأبرز مهارات التعايش هي (المرونة)..
فمعلوم أن سنن الكون التي أحكمها الباري سبحانه وتعالى تتمثل في خاصيتين أساسيتين هما: الثبات والمرونة، والشريعة الإسلامية جاءت لتؤكد هذه السنة الكونية..
فالثبات في الشريعة يجري في الأحكام التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان كالعقائد وأركان الإسلام وغيرها من الثوابت.
والمرونة هي التي تقبل التغيير بما يتماشى مع مستجدات كل عصر وفي كل مصر، يقرر ذلك العلماء بالاجتهاد والقياس
وتعد المرونة سبيل أمثل لمواجهة واقع الحياة، فحيث نجد في سورة «آل عمران» يخاطب الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} الآية.
فهذه الآية الكريمة صورت لنا الجانب المشرق والأثر العاطفي الكبير في استخدام المرونة بالدعوة إلى الله..
إن المرونة بمفهومها العام تتمثل في القدرة على التأقلم والتكيف مع عقبات وظروف الحياة المختلفة وصولاً إلى تجاوزها (إيجابياً) بكل إنسيابية.
وأول خصائص المرونة هي تقبل الذات والبيئة المحيطة، فبدونهما لن يعيش الإنسان مستقراً نفسياً، فنحن إذا فتشنا نماذج من دفاتر التاريخ واطلعنا فيها على سير العظماء وجدنا أن مرونتهم الإيجابية وتقبلهم ذواتهم هي التي منحتهم النجاح وتألقوا بإنجازاتهم في سماء مجتمعاتهم وحفظ لهم التاريخ هذه الإنجازات.
فهناك من القادة والعلماء والمخترعين والمفكرين من واجه أهوال الدنيا ومتاعبها ومصاعبها مثل اليتم والإعاقة والفقر والظروف المختلفة، هم فقط تصالحوا مع واقعهم فأدركوا أن الدنيا فيها ثابت ومتحرك فلم تزعجهم ثوابت حياتهم الصعبة أو أصابهم اليأس منها، بل انطلقوا إلى الفرص المتاحة التي باستطاعتهم التعامل معها والتكيف خلالها، وبالتالي تجاوزوا بنجاح أزماتهم وظروفهم بفضل مرونة تفكيرهم التي حولت نظرات الشفقة والعطف لهم إلى نظرات الإعجاب والدهشة.
إن ركيزة المرونة الأساسية هي الإيجابية، فالمرونة الإيجابية العقلانية تلك التي تنطلق من المبادئ الإنسانية والقيم المعتبرة كالصدق والتسامح والثقة والالتزام والصراحة.. وتبتعد عن الكذب والتدليس والانتهازية والمراوغة والأنانية.. فإذا تمكنت المرونة الإيجابية من النفس سيظهر معها مباشرة التفكير الإيجابي الذي يدفع الإنسان إلى التغييرات الإيجابية في الحياة.
ولا شك أن المرونة بحد ذاتها وسيلة وليست غاية، فهي لن تحل المشكلات بل سترشد إلى إمكانية التصرف الأمثل حيالها، إن العقلية المرنة لا يعيقها شيء، فهي ماضية في تخطي واجتياز العقبات والمصاعب بكل انسيابية.
لقد كانت قصة نجاح المخترع العظيم توماس أديسون (1847 - 1931م) أقرب إلى الخيال ويضرب بها المثال، بماامتلكه هذا العبقري من مرونة عجيبة تمثلت في التكيف ومعايشة الواقع الصعب الذي واجهه، ومن ثم الوصول إلى هدفه الكبير (بإشعال مصباحه) بعد 1000 محاولة.. قال بعدها بكل ثقة وقوة «أنا لم أفشل، بل وجدت 999 طريقة لا يمكن للمصباح العمل بها..!».
ففي هذه القصة تتجلى المرونة الإيجابية بأوضح معانيها، فأديسون استخدم جميع أنواع المرونة النفسية والذهنية والعقلية وأيضاً الجسدية، تمثلت: بالصبر والثقة بالنفس ومواجهة الضغوط والمثابرة والالتزام والتفكير الإبداعي...
لقد تعودنا أن نتعاطف كثيراً مع أنفسنا ونعد أننا دوماً على حق، فنظرتنا هي الصحيحة وتصرفنا هو التصرف الحكيم، حتى إذا أخطانا فإننا لا نعترف بالخطأ بل نظل نكابر كي نبعد شبح الفشل عن أذهاننا (خوفاً) من لوم النفس.. وهذه قمة السلبية ونقيضة المرونة العقلية المنطلقة من التفكير المنطقي الداخلي.
لا يقتصر استخدام المرونة على ماديات الحياة بل تتجلى أيضاً بشكل أكبر في عملية التواصل الفعال والأمثل في العلاقات مع الآخرين، فالمرونة الاجتماعية تحتم على الفرد التعامل وفق مقتضيات الموقف، فالمدير إذا خرج من مقر عمله ودخل منزله فهو (رب الأسرة) الحنون، وإذا قابل والديه فهو ذلك (الابن) البار بهما، وإذا كان مع أصحابه فهو (الصديق) اللطيف المعشر، وهكذا، فالمرونة تحتم على الإنسان تقدير وإعطاء كل موقف ما يناسبه وتحقق له التوازن الانفعالي في مختلف المواقف.
أيضاً تتميز المرونة بجعل الفرد قادرا على تكوين علاقات حميمة والتعبير عن مشاعره الإيجابية بكل شفافية ووضوح من حب وود وإعجاب، وذلك من خلال التعامل مع الآخرين في الأوقات المناسبة.
ولا ننسى أن عمق المرونة نجده في التسامح والتغاضي لتستمر الحياة و(يلبد) الصفاء في الذهن، فهذا أحمد شوقي 1868 – 1932م يقول:
تسامح النفس معنى من مروءتها
بل المروءة في أسمى معانيها
تخلق الصفح تسعد في الحياة به
فالنفس يسعدها خلق ويشقيها
المرونة تعطي الفرد الشعور بالسلام الداخلي وتقلل التوتر وتتغلب على الخوف والشك وتجعله يشعر بالراحة والطمأنينة.
إن كثيراً من شخصيات المجتمع أحببناها بفضل ما يمتلكونه من مرونة إيجابية في التعامل، فالابتسامة لا تفارقهم والتغاضي منهجهم وتقدير الآخرين سلوكهم، بل لم ننس مَن أحببناهم من المرنين رغم تقادم الزمن، وبالمقابل ننفر من التعامل مع الأشخاص المزاجيين الانفعاليين البعيدين عن المرونة والذين يريدون أن تكون الأمور بالطريقة التي يرونها..
هناك كثير من المواقف تعد مؤشرات على امتلاك صاحبها المرونة والنضج أبرز سماتها:
تحول الاندفاع إلى أناة – استبدال الصراخ بالهدوء والحزم - تحول مزاحمة الآخرين إلى فهمهم واستيعابهم – الاعتراف بفضل الآخرين وإنصافهم - احترام الناس ومراعاة شعورهم...
ولا بد أن نعرف بأن المرونة تكتسب عن طريق العقل الواعي بالتدريب المستمر والمثابرة والصبر, بعد ذلك تترسخ منتقلة إلى العقل اللا واعي وتصبح منهجاً يسير عليه الإنسان.
أخيرًا..
يقول الأديب الألماني «غوته» 1749 - 1832م (يمكنك أن تصنع الجمال حتى من الحجارة التي توضع لك في الطريق)..