د. خالد عبدالله الخميس
إن أول من أطلق لقب «إمبراطور العرب» على الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن هو الأديب الهندي؛ روبندرونات طاغور؛ الذي عاصر الملك عبدالعزيز ودرس سيرته، ويُعد طاغور مفكراً ضالعاً في الأدب والفلسفة، فهو أول من فاز بجائزة نوبل في الأدب من غير الأوروبيين، إضافة إلى أنه صديق مقرب لإنشتاين. ولقد وصف طاغور عام 1932م الملك عبدالعزيز (صحيفة أم القرى، نقلاً من حساب تاريخ آل سعود) بقوله: «إن جزيرة العرب هي حصن العرب وقائدها هو إمبراطور العرب، الملك عبدالعزيز»، ولم يقصد طاغور بوصفه للملك عبدالعزيز بإمبراطور العرب إلى إمبراطور جزيرة العرب فقط، بل قصد منه كل أراضي العرب، وهذا وضح من قوله «والوحدة العربية لا يحققها إلا إمبراطور العرب ابن سعود»، وذلك لما لمسه طاغور في الملك عبدالعزيز من صفات الزعامة والقيادة الاستثنائية التي قلّما تتوافر في شخص واحد.
وطاغور عندما قال هذا الوصف لم يطّلع إلا على جزء يسير من إنجازات الملك عبدالعزيز الاسطورية (إذ توفي طاغور عام 1941م بينما وفاة الملك عبدالعزيز كانت في عام 1953م)، والمتأمل لتاريخ الملك عبدالعزيز لا يتصور كيف تمكن الملك عبدالعزيز خلال فترة وجيزة من الانتقال من عباءة فارس الصحراء إلى إمبراطور العرب، ومن حاكم لأرض جرداء وقاسية إلى حاكم لأرض غنية وفيرة الخيرات، ومن ملك لشعب تسود بينهم علاقات قبلية متناحرة إلى ملك لشعب متحد يسود جوهم الصفاء والإخاء.
ونحن أبناء الجزيرة العربية خرجنا على الدنيا تحت سقف وطن واحد، يتحد فيه ثلاثية الشعب والأرض والقيادة، ولم ندرك أن أجدادنا في فترات مضت عاشوا حياة التناحر والصراعات التي لم تنتهِ إلا بعدما فرض عبدالعزيز قبضته على الحكم وقضى على الفوضى والصراعات.
كان الملك عبدالعزيز لا يطرب كثيراً لتنميق الخطب ومديح القصائد بقدر ما يطرب لمقام العز ورتب المجد، ويصف هذه الميزة الشاعر ابن عثيمين الذي ما كانت قصيدته لتخرج إلا بعد انتصار الملك عبدالعزيز في الأحساء وطرده للحامية العثمانية. وكان مطلع القصيدة:
العز والمجد في الهندية القضب
لا في الرسائل والتنميق للخطب
وحقيقة لا جدال فيها، بأن عبدالعزيز لم يُجمل سيرته مديح مادح، ولا ثناء كاتب، ولم يُعلِ من شهرته منابر الإعلام، ولا تغريدات المغردين، بل كانت سيرته العطرة وزعامته المهيبة هي من فرضت نفسها على الإعلام المعادي قبل الصديق.
وعوداً على بدء فلم يكن وصف الأديب طاغور للملك عبدالعزيز بإمبراطور العرب إلا وصفاً في محله. ويكفي اعترافاً للملك عبدالعزيز كإمبراطور عربي وزعامة مهيبة في المنطقة، أن تعلم أن زيارة الرئيس الأمريكي روزفلت (عام 1945) رغم إصابته بالشلل، للملك عبدالعزيز لم تكن من باب المجاملات، فأمريكا في ذلك الوقت خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية وفرضت زعامتها على العالم، ومع ذلك حرص روزفلت على مقابلة الزعيم الملك عبدالعزيز شخصياً، ولو لم يتحلَ الملك عبدالعزيز بكرزما الامبراطورية والزعامة النوعية والقيادة الفذة، لتمت التوافقات بين البلدين بأقل تمثيل دبلوماسي.
وما لا يدركه الكثير، أن الملك عبدالعزيز يجيد بدهاء لعبة الأوراق السياسية التي هي من أصعب الألعاب الدبلوماسية، فيجيد استخدام أوراق قوته بمهارة تفوق مهارة خصمه الذي قد يمتلك أوراقاً أكثر قوة، كما يستطيع بكل دهاء أن يقلب مسار اللعبة الدبلوماسية على لاعبيها، وأن يتملص من الوقوع في فخ المواقف التي فيها مصيدة، ويوجه بدهاء بوصلة حبل المصيدة لمن نصبوها. والمواقف في هذا كثيرة، وكثيرة جداً، فبعضها تم تدوينه وبعضها بقيت في ذاكرة الرواة.
فمن أكثر المواقف الدبلوماسية عبقرية والتي أذهلت صنّاع السياسة ويصعب على أي سياسي محنك اتخاذ قرار حكيم، وهو الصراع الأمريكي الإنجليزي حول استحقاق تنقيب البترول في السعودية، فبعدما تأكد للدولتين أن أرض السعودية تختزن آبار نفط مهولة، تنافست أمريكا وبريطانيا على امتيازات التنقيب. وباعتبار أن الإنجليز كان لهم مع الملك عبدالعزيز قبل الحرب العالمية مصالح مشتركة، لذا اندفعوا بقوة لطلب إذن الموافقة من الملك عبدالعزيز لامتيازات التنقيب ليستخدموا إذن موافقته كورقة ضغط على الحكومة الأمريكية، لكن الملك عبدالعزيز استطاع بدهائه أن يتجنب الوقوع في مصيدة السندان والمطرقة، فقال للإنجليز، «أنا ليس لدي مشكلة في أن يكون لكم امتيازات في التنقيب عن النفط، فكل ما في الأمر أن عليكم أولاً التفاهم مع الأمريكان حول الموضوع، والرأي الذي تصلون إليه فأنا موافق عليه». والملك عبدالعزيز يدرك بسياسته أن التعامل مع الأمريكان أكثر مرونة، وأنهم لن يتخلوا عما بدأوه في التنقيب، ورغم أن الإنجليز عُرفوا بالدهاء السياسي إلا أن الملك عبدالعزيز استطاع من خلال حواره معهم أن يحوّل لعبة الوقوع في الفخ إلى ملعب الإنجليز. ولمّا توجه الإنجليز للتفاوض مع الأمريكان كان التفاوض حاداً جداً ومن دون جدوى، حتى أثرت تلك المسألة على علاقة البلدين، ويصف بعض المراقبين أن العلاقات البريطانية الأمريكية شهدت توترات عنيفة لم يشهدها البلدان من قبل، وانتهت تلك المفاوضات بتسليم الإنجليز الأمر لأمريكا.
وهكذا استطاع الملك عبدالعزيز بعبقريته الفطرية الصحراوية أن يحول بوصلة الصراع من أرض الجزيرة العربية إلى البحر الأطلسي، ومن كونه خصماً إلى كونه متفرجاً، وهذا التعقل والدهاء العبدالعزيزي في ملاعبة ساسة الدول العظمى قد فطن له عباس العقاد حينما قال عنه «إنه عنيد مع الأقوياء». ولم يكن هذا الموقف هو الموقف الوحيد لفطنة ودهاء الملك عبدالعزيز في تعامله مع الدول العظمى، فإبان وطيس الحرب العالمية الثانية تجنب الملك عبدالعزيز زجّ الدولة في ولاءات مكشوفة، فلم يصرح بمعاداة الألمان على حساب الإنجليز، واختط الملك عبدالعزيز للدولة إبان الحرب مسارا أمنيا سلميا، إلى أن وضعت الحرب أوزارها وانتهى وطيسها واتضحت معالم المنتصر فيها والخاسر، بعدها، قام الملك عبدالعزيز بالمباركة للمنتصرين وهنأهم على انتصارهم. وكان هذا الإجراء من أحكم الإجراءات التي جنّبت البلد ويلات الحرب العالمية الثانية التي لم يسلم من شرها أي بلد في العالم. والذين ينتقدون سياسة الملك عبدالعزيز في تأخر إعلان التأييد، يجهلون مخاطر أن تقحم نفسك وبلدك في عراك يمكنك تجنبه، وما قام به الملك عبدالعزيز لم يفطن له الملك فاروق ملك مصر عندما أعلن تعاطفه مع الألمان، ونتج عن ذلك أن تم معاقبته من قبل الإنجليز.
لقد ذكرتني لعبة الملك عبدالعزيز مع الإنجليز والأمريكان بشأن قضية امتيازات التنقيب عن النفط بتلاعب الإنجليز والفرنسيين بالشريف حسين إبان الحرب العالمية الأولى، حينما ورطوه في حربهم ووعدوه إن ناصرهم أن يملكوه الشام الكبرى، ولكنهم في الأخير أوقعوه في المصيدة حينما طردوه من اجتماع التقسيم المعروف بسايس بيكو عام 1915م. ولم يكن الشريف حسين هو الوحيد من قادة العرب الذي يقع في المصيدة، فلقد تلاه قادة عرب دخلوا في مصائد ومآزق جرّت على دولهم وشعوبهم ويلات وويلات.
ولا أدري لماذا لم يتعلم قادة العرب في الماضي والحاضر من الدروس الدبلوماسية للعبقري الملك عبدالعزيز، وكيف يمكنك أن تجنب بلدك الدخول في الفخّ وتتفادى مصيدة المطرقة والسندان، وليست تجربة صدام ببعيدة، حينما ورّط العراق في حروب وويلات لا زال العراق يدفع ثمنها وذلك عندما اتخذ قراراً «عنترياً» بغزو الكويت، وقبله جمال عبدالناصر حينما ورّط مصر في مواجهات قتالية وعبثية مع إسرائيل واليمن، وبنفس العقلية «العنترية» حرق الأسد بلاد الشام، وجرّ القذافي بلده للخراب والدمار. ورغم هزائم جمال وهزائم صدام ومن بعدهما من صغار «العنتريين» فلا زال كثير من العرب حتى وقتنا الحاضر يرفعون صورهم المخيبة للآمال ويطربون لخطبهم الرنانة وشعاراتهم «المزلزة» التي تخادعهم بالنصر وهم في قمة الهزيمة، وتعايشهم المجد وهم في غاية الذلة.
ولئن كان كثير من قادة العرب يطرب لصوت العنتريات ويسهل إيقاعه في الفخ، وكما قيل «العرب ظاهرة صوتية»، لكن هذا لا يندرج على الملك عبدالعزيز، فلقد كان فطناً بتعقل، يوازن بحنكته وحكمته بين أبعاد المشكلة ويستطيع أن يقلب طاولة الفخ على رأس من نصبوها، ويسهل عليه موازنة القضايا السياسية مهما بدت شائكة. وأجمل من هذا كله، أنه لم يكن من طبعه الحيرة والتردد في اتخاذ القرارات، فهو يمتاز بكرزما فريدة، يعرف متى يهادن ومتى يخادع، ومتى يقاتل ومتى يصالح، ومتى يستجيب ومتى يرفض، بكلمة واحدة؛ الملك عبدالعزيز يتعامل مع أي حدث مهما بدا محيراً، بحلول مبدعة تذهل العدو قبل إذهال الصديق.
وتتجلى أيضاً فطنة الملك عبدالعزيز في تعامله مع الجبهات الداخلية، حين مواجهته السياسية مع الشريف حسين من جهة، والإخوان من جهة أخرى، فكلاهما يمثلان خطراً يعيق ويهدد أمن ووحدة البلد، فبينما يعيق الشريف حسين توحيد الجزيرة العربية ببسط نفوذه على الحجاز، يتطلع شق من الإخوان لإمارة مكة بينما يتطلع الشق الآخر لإمارة المدينة المنورة. ويدرك الملك عبدالعزيز بعبقريته، أن الدولة الناجحة لا يمكن أن تقوم بأي حال من الأحوال على تعددية السلاطين، وأن الدولة تتهاوى هيبتها حينما يحكمها أكثر من زعيم. فأول ما بدأ به الملك عبدالعزيز أن استخدم الإخوان كقوة ضاربة للتخلص من الشريف حسين (عام 1925م)، وبعد أن استتب حكمه على الحجاز وانكشفت نوايا الإخوان في التطلّع للانشقاق، قام الملك عبدالعزيز بقتالهم في معركة مصيرية عُرفت بحرب السبلة (1929م). وهكذا قضى الملك عبدالعزيز على ألد أعداء توحيد البلد في فترة وجيزة وبأقل التكاليف. يذكرني هذا التصرف العبقري بعبقرية أبو جعفر المنصور حينما هدد استقرار الدولة زعامتان، أبو مسلم الخراساني من جهة وعمه عبدالله بن علي من جهة أخرى، حيث أرسل أبي مسلم الخراساني للقضاء على عمه عبدالله الذي أراد أن يستقل بحكم الشام، وصرح أبو جعفر أن هدفه في ذلك حيث قال لابنه المهدي، «والله لا يهمني أيهما قتل الآخر». وبالفعل تم القضاء على فتنة عمه عبدالله، وبعدها تفرغ أبو جعفر للقضاء على فتنة أبي مسلم، وهكذا بسياسة «عصفورين بحجر» عمّ الاستقرار في دولة بني العباس.
إن مواجهة جبهات متعددة سواء داخلية أو خارجية تحتاج إلى قيادة فذة وعبقرية حذقة، فلقد نازع الملك عبدالعزيز على الحكم كل من ابن رشيد والعثمانيين والشريف حسين والإخوان وعدد من القبائل، واستطاع أن يتخلص مع كل جهة بأسلوب مختلف. إن رجلاً بدأ من الصفر ثم استطاع بحكمته أن يُرسي دعائم حكمه على أرض تناوشتها عدة زعامات لابد وأن يتحلى بذكاء عقلي- اجتماعي فريد وذكاء دبلوماسي- حربي عجيب، وهي جزء بسيط من كريزمات الملك عبدالعزيز.
إن هذه الكرزمات الزعامية لا يمكن أن تجتمع إلا في رجل تولع منذ صباه بالزعامة والسيادة، فلا عجب، فأبوه ملك، وجده ملك، ومن أسرة يمتد تاريخها لقرون عدة في الملك حتى قبل تأسيس الدولة السعودية الأولى. ومن المواقف للملك عبدالعزيز التي تحكي ولعه بالزعامة، أنه عندما كان طفلاً برفقة والده الإمام عبدالرحمن في البحرين إذ سأله الشيخ عيسى بن علي آل خليفة أمير البحرين: أيهما أحسن قطر أم البحرين، فقال بدون تردد: «الرياض أحسن منهم كلهم». وهذا الموقف يكشف لك مدى توق وولع الملك عبدالعزيز وهو في عهد صباه بالزعامة، ومدى انصراف فكره وطموحه لاستعادة الحكم. ولم يكن الملك عبدالعزيز في صباه معنيا بالاستمتاع للهو رغم وجود انفتاح حضاري في البحرين والكويت، وكان كل ما يشغل باله هو أن يلملم شتات أرض الجزيرة ويوحد قبائلها ومناطقها تحت راية واحدة، وبالفعل فالصورة التي انطبعت في ذهن الصبي وهو صغير حققها بالحرف الواحد في شبابه، بل وزاد عليها بأن جعل الجزيرة تعم بالرخاء والاستقرار والغنى.
وما ذكرته هنا ليس فيضا من غيض فحسب، بل هو نقطة في بحر من أمجاد الملك عبدالعزيز، ومؤكد أن هنالك الكثير من مواقف الذكاء والدهاء التي لو أميط اللثام عنها، لتأكد لنا أننا أمام أسطورة وداهية عظيم يذكرك بدهاة العرب والغرب أمثال عمرو بن العاص وأبو جعفر المنصور ونابليون.
ومؤكد أن الملك عبدالعزيز ورّث ذكاءه ودهاءه الفطري للكثير من أبنائه وذريته، الذين أداروا ملفات مفخخة بالمصائد واستطاعوا بكل حكمة وبصيرة التعامل معها بنفس أسلوب الملك عبدالعزيز، كان آخرها ملف غزو الكويت وملف التمرد في البحرين وملف «الربيع العربي»، ولم يتفوق عميد الدبلوماسية؛ سعود الفيصل على قرنائه الدبلوماسيين وعلى الصعيد العالمي إلا لكونه تربى وانغمس في حضن البيت العبدالعزيزي وأبناء البيت العبدالعزيزي.
ويتجلى شبه الملك عبدالعزيز في طلًة المهابة والزعامة في شخص الملك سلمان- حفظه الله-، ففي وقت مبكر من عمره؛ وضع الملك سلمان نصب عينيه السير على خطى والده المؤسس بالاهتمام الشديد بإدارة وتعزيز لحمة الصف الداخلي للبيت السعودي وضبط مفاصله وحرصه على تماسك قيادات الوطن وتركيز زعامة الدولة في مركزية موحدة الرأي والأهداف، فلا مجال لتعددية الزعامات ولا مجال للانشقاق عن الصف الوطني أو الاندساس بين أهله، ولم تكن صفة الحزم والعزم التي ورثها عن والده تُطلق عليه، إلا لعلو هيبته التي ضاعفت من هيبة الدولة على الصعيد الداخلي والخارجي، وكذا على الصعيد الإقليمي والعالمي، وكل ذلك كان بمؤازرة ولي عهده الأمين محمد بن سلمان الذي قارب شبهه شبه الملك عبدالعزيز.
كنت شخصياً في منطقة تبوك وتحديداً في مدينة حقل، وشاهدت لوحة مرورية إرشادية تحدد مسافات المدن، ورأيت أن جيزان تبعد مسافة مذهلة لا تقل عن 1750 كم، وكنت أتساءل: كيف تمكن الملك عبدالعزيز من توحيد كل شبر من تلك المناطق رغم بعدها عن الرياض، ورغم عدم امتلاكه لطائرات أو دبابات، والحقيقة أنه لم أكن وحدي من يسأل نفسه هذا السؤال، فلقد تساءل هذا السؤال المؤرخ النمساوي فون دايزل الذي قابل الملك عبدالعزيز عام 1926م حيث قال: «عندما يقوم رجل لا يملك إلا رجالاً محدودين باستعادة الرياض، ثم ينطلق ليفرض نفوذه على رقعة عظيمة من الأرض تفوق مساحتها مساحة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا مجتمعة، لم يساورني شك بأن هذا الرجل لا يمكن وصفه إلا بالنابغة».
وكنت أتساءل أيضاً ما الذي دفع الملك عبدالعزيز أن يعيش معظم حياته في خوض معارك توحيد هذه الرقعة الشاسعة الجرداء، حتى قرأت أحد مقولاته: «كان هدفنا قبل أن نُوحد الأرض، أن نُوحد النفوس، وأن نوحد الأفكار، ولن تنجح هذه الأمة على امتداد رقعتها الجغرافية طالما بقيت ممزقة». وبالفعل فإن كل منطقة تم ضمها للدولة السعودية يدينون بالعرفان والجميل للملك عبدالعزيز، وكل منطقة لم يتم ضمها، تمنوا أن قدموا ولاءات البيعة وأصبحوا ضمن أراضي السعودية.
نحن الآن كسعوديين يحق لنا أن نفخر ونفاخر بأن سخر الله لنا رجلاً عبقرياً فذّاً، كان كل جلّ هدفه وتضحياته طيلة حياته أن يلملم شتات أرض الجزيرة وأن يجعل أهلها ملتمين حول وطن واحد موحد. وإن كنا نحن السعوديين نحرص على الالتفاف حول الوطن وقيادته منذ أيام المؤسس، فالحاجة لتعزيز هذا الالتفاف أصبحت أكثر من أي وقت مضى وذلك في ظل توالي الأزمات السياسية والقلاقل الإقليمية. والبلهاء الذين يطنطنون بشق لحمة البيت السعودي ويسعون لزعزعة وحدة وأمن البلد، يجهلون عمق وتجذر البناء المتين الذي أسسه الملك عبدالعزيز، ولا يعون مدى دعامة البناء الذي حرص أبناؤه وأحفاده من بعده على استكمال متانته.
ولنكن صرحاء أكثر، فالذين ينادون بالديموقراطية كأساس لحكم البلد، يغيب عن بالهم خصوصية تركيبتنا المجتمعية، إذ الانتخابات القائمة على أسس من الاحتقان الطائفي والإقليمي والقبلي أو على أسس من الأحزاب الدينية واللادينية، تقود لشرعنة البلد لصالح تركيبة مجتمعية معينة على حساب الحطّ من شأن التركيبات الأخرى. وهذه التركيبة المجتمعية قد فطن له الملك عبدالعزيز، إذ نحى اسم قبيلته جانباً من مشهد حملات توحيد البلد، وعامل كل منطقة وطائفة وإقليم باعتبارهم شركاء في الوطن، فعبدالعزيز لم يعد اسماً ينتمي لعائلة فحسب، وإنما هو رمز لكيان دولة، وأيقونة لكيان وطن، والذين يحاولون أن ينالوا من هذا الكيان، فإنما ينالون من أنفسهم، فزمن الفوضى قد ولى، وقد دُفنت تحت أقدام باني هذا الكيان؛ الملك عبدالعزيز.
كم تمنيت أن تخصصت في التاريخ لتكون رسالتي في الدكتوراة عن سيرة الملك عبدالعزيز، إذ سأجد فيها الاستمتاع بجواهر من البطولات المجيدة، ولآلئ من المواقف المشوقة، وكنوزا من القصص الممتعة.
وقبل الختام، فإن منى الكثير والكثير أن يقرؤوا كتاباً يحكي سيرةً ذاتيةً للملك عبدالعزيز، يُعرض على شاكلة المؤلفات العالمية، يصل انتشاره شرق الأرض وغربها. ومنى الكثير والكثير أن يشاهدوا فلماً سينمائياً عالمياً بعنوان «إمبراطور العرب» يليق محتواه وإخراجه بمقام الملك عبدالعزيز.
ختاماً، إننا رغم ما نكنه للملك عبدالعزيز من محبة واحترام، وتقدير وعرفان، فلن يوازي ذلك جزءاً يسيراً مما قدمه لنا من وطنٍ مستقر أمانه، وشامخ بناؤه، ومتكامل أركانه، حسدنا عليه الأقربون قبل الأبعدين، وحق لنا نحن السعوديين أن نفخر ونفاخر، وأقول وتقول بكل اعتزاز: نعم، أنا سعودي.