د. جمال الراوي
حديثُ الروح؛ حديثٌ عجيب؛ لا يشبهه أيّ حديث؛ ليس فيه صوتٌ ولا همسٌ ولا حِسٌ، رغم أنّه يسري في البدنِ؛ كما تسْري الدماءُ في العروق، وهو ليس مثل حديث المُحبين والعاشقين؛ الذين يطمع كلُّ واحدٍ منهم أنْ ينال مُتعته من حبيبه ومعشوقِه؛ فيختار كلماتٍ رقيقة وتعابير رهيفة... حديثُ الأرواح؛ حديثٌ بين روحين، تباعدا في الزمان والمكان؛ لكنّهما تقاربا في المشاعر والأفكار، فتجدهما متوافقين في الرؤى والمفاهيم والأفكار، لأنّ همّهما واحد، وحزنهما واحد، وفرحهما واحد... يلتقطان إشارة بعضيهما؛ التي تقطع الآفاق، لتصل إلى قلبيهما وحدهما دون غيرهما، فيتبادلان الأحاسيس الصادقة الخالية من النفاق والرياء، والمليئة بمُتعة الروح قبل مُتعة الجسد.
حديثُ الأرواح، يعرفه كلُّ من هامتْ روحُه، وطارتْ حيثما شاء لها أنْ ترحل، فوجدها تتآلفُ وتتفقُ مع من يُشاطرونها الحزن والألم، أو من يفرحون لفرحها، ويبادلونها البسْمة بأخرى، ويطيلون النظر والتفكير فيما يُرسله لهم من أحاديث، فيقلّبونها على وجوه الخير والصّدق والرِضا، فيردّون عليه بمثلها، فيغدو مطمئنَ البال، ومُرتاح النّفس لتلك الرسائل الروحانية التي وصلته... فيشعر بطمأنينة بالغة؛ لأنه وجد أرواحًا بعيدة عنه في الزمان والمكان؛ تقف معه، وتسانده وتؤيده، وتضع يدها فوق يده، فيشمّ من كلماتها رائحة الموَدّة والمحبّة، وعبقَ الصداقة وطيبها، فيأنس بها، فتشمله الغِبطة بأمنها وأمانها، فتساعده حتى يُسكّن من آلامه وأحزانه.
قد تألفُ نفسُك وروحُك بعض من تقابلَهم أو تُعاشرهم، لأنّك وجدت معهم التوافق والتَلاؤُم والانْسِجَام، ووجدت فيهم التَمَاثُل في الأرواح، والتَنَاغُم في المشاعر، والتَناسُب في الطباع، والتَطَابُق في الأفكار؛ فتمضي معهم وبهم؛ تخوض غِمار الحياة، وأنّت مرتاح البال، وهادئ الضمير؛ لأنّك أينما تلفتّ وجدتهم من حولك، ينشرون عبقهم وعِطرهم، حتى تهدأ نفسك وترتاح... هؤلاء؛ متى استدعيتهم هبّوا إليك مسرعين، وإن غابوا عن ناظريك؛ تركوا خيالهم يحوم فوقك ويظلّك بظلّه، وشذا كلماتهم لا يُغادر مسامعك... تألفهم ويألفونك، فتلتقي أرواحكم في دوحة غنّاء؛ مليئة بأبهى الرياحين والأزهار.
وقد تنفر من آخرين؛ لأنك التقيت بهم كعابري سبيلٍ في طريقك، فتعاملهم على مضضٍ، فلا تألفهم ولا يألفونك... إنْ عاملتهم بالحُسْنَى أداروا ظهورهم لك، ولم يبادلونك مثلها، وإنْ عَملْت لهم خيرًا، ما أشعروك بالتقدير والامتنان... فتمضي معهم واللوعة تحرق قلبك، والجَوَى يكوي أحشاءك... فتحاول جاهدًا أنْ تُبادلهم البسّمة بالبسّمة، والحُزن بالحزن، بينما روح كل واحدٍ منكم في وادٍ؛ فالظروف والأحوال أجبرتك أنْ تعمل معهم في مكانٍ ما... فقد تعمل مع زملاءٍ؛ تقضي معهم الساعات الطوال، لكنّك لا تجد عند بعضٍ منهم مُتعة الروح والقلب؛ التي تُؤنِسك وتُسعِدك.
يصف «محمد إقبال» هذا الحديث النجيّ بين الأرواح، ويقول:
حديثُ الروحِ للأرواحِ يسْري
وتُدركهُ القلوبُ بِلا عناءِ
هَتفْتُ بهِ، فطارَ بِلا جَناحٍ
وشقَّ أنينهُ صدرَ الفضاءِ
إنّه حديث الأرواح؛ الذي يدبّ ويطير في الآفاق، ليخاطب أرواحًا مُماثلة، فتتلقاه القلوب دون نَصَبٍ ولاعَنَتٍ، وتخفق له مُتَهلّلة ومُبتهِجّة، وتخْتَلج وترْتَجف لوقعه، ثم يهدأ وجيبها وتسْكن، بعد أنْ تُلقي على النّفوس حديثًا مُمتعًا، فتطير الأرواح، مرّة أخرى، لتُحلّق سويّة في الفضاء، ولتعزف أجمل الألحان، ولتشدوا بأجمل الكلمات.