«الجزيرة الثقافية» - محمد هليل الرويلي:
... متى يكون في بلدنا؟ متى يُفتتح جامعة؟ متى يكون لدينا قطار.. بلدية.. نتحدث بالمايكروفون.. نستمع إلى الإذاعة.. أشياء حينها أشبه ما تكون بالأحلام! أصبحت اليوم حديثًا مضى.. وشاهدًا على الظروف القاسية والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي صاحبت نشأة البلاد. وهنا تكمن أهمية هذه المذكرات (يوميات نجدي) آخر كتاب صدر للشيخ العلامة محمد بن ناصر العبودي عن دار الثلوثية. وفي الحقيقة إنه يُعد أول كتاب، لكنه لم يشأ نشره؟! كتب مقدمته الناشر الدكتور محمد بن عبدالله المشوح. سرد فيها قصة هذه اليوميات وبداياتها وكيف كُتبت وكيف أقنع الشيخ محمد العبودي بنشرها..
للحديث حول 3 الأجزاء لكتاب (يوميات نجدي) استضافت «الجزيرة الثقافية» الدكتور محمد المشوح مسرجة فرجة من التاريخ في الفترة التي كتبت فيها هذه اليوميات. بدءا من العام من 1368هـ كان عمر الشيخ العبودي لم يتجاوز 25 عامًا، لكنه يُذكر ثالث ثلاثة - أقلام سعودية - حرصوا على الكتابات اليومية في المجتمع النجدي، أبرزهم: الدكتور عبدالعزيز الخويطر، إبراهيم الحسون، والعبودي.
وفي اتصال هنأته وداره (الثلوثية) بالإصدار الفخم للعلامة عميد الجغرافيين العبودي. تحدث الدكتور محمد المشوح قائلًا: إصدارنا اليوم إصدار مختلف، وعنوان لطيف لافت، يكشف بجلاء ووضوح عن نبوغ مبكر، واستشراف مذهل لشاب نجدي عاش في ربوع بريدة في ظل وكنف دولة حديثة جديدة ناشئة محدودة الإيرادات عظيمة الالتزامات، فكانت كتاباته وتدويناته المبكرة التي سبقت بلا شك أبناء جيله وزمنه تعبر عن هذه الروح المتقدة الوثابة والقلق الثقافي والعلمي والمعرفي الذي لازمه منذ طلائع شبابه.
وسوف يجد القارئ في هذه اليوميات الحماسة المعرفية المرافقة للمؤلف في شتى زوايا كتاباته وتدويناته.
إن هذه اليوميات تشكل لوحة بانورامية كبرى لتلك الحياة التي عاشها وطننا في عشر الستين وعشر السبعين الهجرية بكل صعوباتها وإشكالاتها.
لقد ابتدأ العلامة محمد العبودي هذه اليوميات من يوم 29/3/1368هـ حتى يوم الخميس 5/5/1375هـ.
وهي كما يقول قيودات شخصية، لم يكن القصد منها آنذاك النشر، ولم يدر بخلده أنها ستبقى هذه السنين الطوال، لقد كانت غايتها الكتابة فحسب، وتمرين القلم على كتابة يوميات متصلة. فكانت عفويتها ودقة وصفها وجمال تحليقها معبرة بوضوح وجلاء عن توقد عقل ذلكم الشاب النابه، بذكائه ونبوغه ومشاركاته واهتماماته وقراءته واطلاعه ونقده وطموحه.
إنها لوحة جميلة صادقة عن مرحلة عمرية مهمة من حياة شيخنا. ومن ملامح هذه اليوميات أنها كتبت ولما يبلغ الخامسة والعشرين من عمره. مع هذا الكم الهائل من المسؤوليات والأعمال والمنجزات التي تعكس كنه هذه الشخصية الاستثنائية بكل تفاصيلها. وعندما نستحضر عمر الكاتب وزمنه وقلة الموارد العلمية والثقافية آنذاك، مع وجود ووضوح الأسلوب وحبك اللفظ والعبارة ومجاراة الأساليب الأدبية الراقية؛ ندرك آنذاك حالة نبوغ الكاتب.
وأضاف: من ملامح هذه اليوميات أن القارئ قد يلحظ فيها حدة في نقد الواقع الذي يعيشه الناس في نظرتهم للمستجدات، وتعاملهم معها، وريبتهم وشكوكهم ونفرتهم وتوجس الكثيرين منها. وهو ما انفرد به الكاتب من أبناء جيله، والقلة الذين شاركوه القبول للجديد واستشرافهم للمستقبل بكل اطمئنان، بل استعجالهم ضرورة اللحاق بالأمم المتقدمة والمتحضرة. إضافة إلى نقده الحالة المعيشية والخدمية لواقع الناس مع ما تعانيه الدولة آنذاك من قلة الموارد وضعفها. وكان أن مدّ الله في عمره فشاهد ما تمناه، ولقي ما حلم به، وتحقق ما كان يرجوه لوطنه ومجتمعه، بل وأزيد من ذلك. وذلك من فضل الله عليه وعلى الناس. ومن ملامح هذه الذكريات: الحالة الوصفية المبكرة التي اصطبغ بها قلمه منذ بداياته؛ فهو لماح دقيق الملاحظة، يحسن التقاط الحدث ومعاينته ووصفه، واجترار المفيد منه، وتطويعه لخدمة فكرته ومراده.
وتابع «المشوح»: كما تتضمن ملامح هذه الذكريات توثيقه الهمة الشبابية التي كان يقودها مع شباب بريدة آنذاك، وإسهامهم في الحراك الثقافي والعلمي في المدينة عبر النادي الأدبي الذي تم تأسيسه مبكراً. إضافة إلى الكتابة إلى المسؤولين بحاجات الأهالي الخدمية وتطلعهم لتحقيقها، وتأسيسهم لجنة للعناية والمطالبة بحاجاتهم. وقد أورد ذلك مفصلاً كما سيأتي. وهو تعبير صادق عن الروح الإيجابية المبكرة التي كان يتحلى بها، ودور المواطن والمثقف نحو مجتمعه ووطنه.
وزاد: ومن ملامح هذه اليوميات: توثيقه لمرحلة من مراحل البلاد المهمة، هي التعليم، ومشاركته المبكرة في التأسيس من خلال أول مدرسة افتُتحت في بريدة عام 1356هـ. ثم إدارته لثاني مدرسة افتُتحت عام 1368هـ وهي المنصورية، ثم الثقة الكبرى التي حظي بها من القيادة وولاة الأمر -حفظهم الله- ممثلة في الملك سعود وسماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم في إسناد إدارة وتأسيس ثاني معهد في المملكة إلى معالي شيخنا العلامة محمد العبودي، وهو - بلا شك - استشراف مبكر منهما لمواهب وقدرات وإمكانات هذا الشاب المتوقد حماسةً وعقلاً وثقافة.
ومن ملامح هذه اليوميات وصفه وتوثيقه للممانعة التي لقيها إبان ولوجه سلك التعليم المبكر، وما لقيه من عناء ومخاصمة تجاه قناعاته التجديدية في مسارات التعليم وتطوره عموماً، وصبره وتحمله لذلك من أجل قناعاته الصائبة الموفقة بحمد الله.
لقاؤه بالمؤسس الملك عبدالعزيز
وقال الدكتور محمد المشوح: كما حرص الشيخ العبودي على أن يدون في يومياته علاقته مع ولاة الأمور ملوك هذه البلاد بدءاً من لقائه بالمؤسس الملك عبدالعزيز الذي زاره المرة الأولى بصحبة سماحة العلامة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، ثم الملوك من بعده. وفي كل لقاء يظهر حسه الوصفي والأدبي والبياني في تفاصيل تلك اللقاءات، والجلسات وما يدور فيها، وحضورها وشهودها، وأحداثها. فتجلت هذه الروح الأدبية العالية، والذائقة الفنية الحاضرة، والالتقاطات المدهشة، وهو ما انعكس لاحقاً في رحلاته المطبوعة والمخطوطة التي ظهرت فيها روحه الأدبية بكل جلاء.
واشتمل على ملامح حياته الاجتماعية التي تصور حالة نجد آنذاك، وعلاقات أهل البيت والأسرة مع بعضهم؛ إذ دارت في هذه اليوميات تفاصيل مهمة عن والده ووالدته وإخوته وزوجته وأولاده وجيرانه وذويه، وهي تفاصيل تكشف صورة مصغرة للبيوتات النجدية بأحداثها وهمومها ومشكلاتها ونوائبها وأفراحها وأتراحها. ومن ملامح هذه اليوميات أنه رسم بعينه اللماحة حال الناس آنذاك، وتفكيرهم وطموحاتهم ومناقشاتهم، وكانت تلك الأماكن التي مر بها بدءاً من بريدة والمدينة ومكة والطائف وغيرها من الأماكن التي وطئها ومر بها محطات مهمة من هذا الكتاب.
وأضاف: واشتمل هذا الكتاب على رصد للحركة العلمية التي أحياها ورعاها سماحة العلامة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد إبان قدومه قاضياً بأمر وتوجيه من المؤسس الملك عبدالعزيز؛ فالتفّ حوله الطلاب، وعمرت الحلقات، وبرز العديد من التلاميذ النجباء، وعلى رأسهم شيخنا المؤلف - حفظه الله -.
فرصد ذلك الحراك وما يدور في مجالس شيخه، وعلاقته به، وأحاديثه ولطفه ومواقفه ومباسطاته وغيرها مما وقعت عليه عين وأذن الكاتب مما يعدّ أحد المصادر الوثائقية للحركة العلمية في بريدة خصوصاً، والقصيم عموماً.
تاريخ أمة وتفاصيل مدن
وأكد الدكتور المشوح أن هذه اليوميات وإن كانت تدون يوميات وحياة فرد فإنها - بلا شك - تاريخ أمة، وسجل حقبة، وتفاصيل مدن وبلدان ومجتمعات، كانت فيها المعركة بين الجديد والقديم على أشدها، وفي قوتها وعنفوانها. وقد اصطف هو بلا تردد مع قبول المستجدات النافعة والمحدثات المفيدة، وتلقى إثر ذلك مشكلات ومنغصات فقاوم وصابر ونافح ودافع، وكان على رأسها التعليم.
وأضاف: لقد ابتدأت قصتي مع هذه اليوميات منذ عام 1423هـ حين شرع شيخنا في إحياء مشروعه الكبير (معاجم الأسر) فأطلعني آنذاك على عدد من مشاريعه العلمية التي دونها وكتبها وأنجزها، ثم حدثني عن يوميات كان ابتدأها في بريدة مع قدوم شيخه الأكبر عبدالله بن حميد. فاقترحت وألححت في ك للقاء على إخراجها، فقال: إنها كتبت في حقبة زمنية فائتة، تتضمن حال الفتى آنذاك، وتوقده، وحماسته، ونقده، وعنفوانه؛ فزادني ذلك حماسةً، وقلت: الأَولى أن ننسخها ونراجعها، ثم يأتي النشر لاحقاً بعد اكتمال المشاريع العلمية الأخرى. وبعد إلحاحات عديدة وجدل طويل استطعت أن أقنع شيخنا بأننا بحاجة إلى طباعة وصف هذه المذكرات، وتمت هذه النسخة بعد مراجعات متعاقبة حتى وصلت لهذه النسخة المطبوعة.